قبل أن تصل الأمور إلى ذروتها وتتفاقم بهذا الشكل الذي يكاد يجعل منها ثقافة مضادة للعقل والمنطق حذرت مجموعة من الأصوات، كما حذرنا، من خطورة انحدار لغة الحوار بين المتناحرين والمختلفين سياسيا واجتماعيا ودينيا. كانت الأمور تشير الى التحول من العنف اللفظي الى العنف اليدوي فالحرب أولها كلام. وكنا نتوجس خيفة مما سيحدث لمجتمع من الموزاييك يتغنى بالوحدة الوطنية وهو لا يدرك الدرس الأول من التربية الوطنية.

Ad

تركيبة المجتمع المشابه للتركيبة الكويتية أمامها طريقان للانصهار: الطريقة الأميركية قبل عام 1970 وما يعرف بالانصهار Melting pot بين اثنيات عرقية ودينية في مجتمع واحد أو الطريقة الكندية وهي التعددية أو Mosaic والتي عادت اليها أميركا بعد 1970 مؤمنة بأن اختلاف شرائح المجتمع دليل على ثراء ثقافة وحضارة هذا المجتمع. حاولت الكويت منذ استقلالها وبأصوات مجموعة مخلصة من ساستها ومثقفيها الى الوصول الى حالة الانصهار ولكن الخطأ الأول هو عدم اعتماد الكويت كدائرة واحدة سياسيا، خصوصا أن التعداد السكاني للكويت سابقا وحاليا أقل من سكان أي مدينة كبيرة في العالم. والخطأ الثاني هو التوزيع الديموغرافي والسكاني لشرائح المجتمع في برامج الإسكان.

هذا التوزيع المناطقي والطائفي للدوائر السياسية جعل الناس يعيشون بمصطلح الجيتو ghetto وان لم يكن واضحا بحواجز الجيتو وأسواره. وكلما أحس سكان هذا الجيتو بخطر ما يداهمهم هبوا لرد اعتبارهم بطريقة أو بأخرى. وردة الفعل العنيفة هذه شجعت مجموعة من الأشخاص لدراستها واللعب على نتائجها اللحظية والاستفادة منها. المجتمع الذي يعيش هكذا تقسيمة بإمكان أي شخص أي يحرك صراعا ما بين فئاته بهدف الاكتساب ان لم يكن لضمان أصوات فئة من فئاته فهو لتحقيق شهرة ما على حساب استقرار المجتمع.

يخرج رجل معتوه من طائفة ما فيشتم رمزا من رموز طائفة أخرى مستفيدا من هجوم تلك الطائفة عليه وبالمقابل يرد معتوه آخر فيشتم. يخرج رجل على خلاف فكري مع شخص من قبيلة ما فيشتم القبيلة فتثور عليه ويحتمي بطائفة أو قبيلة أخرى على عداء معها، ويكون له ما يريد. أصبحت لغة الشتم والاستهزاء بمعتقد الآخر المذهبي والقبلي هي الورقة الرابحة بيد كل مفلس فكريا وليس بالإمكان أن نطلب الحكمة من الجماهير اذا فلت زمام الأمور فالعامة تنساق بفعل عواطفها.

الذي لا يدركه هؤلاء الشتامون، ونحن نظن أنهم لا يدركون، أن ما يحدث هو تأصيل لفكرة الجيتو وتدعيم لأسواره وحواجزه وتقسيم المجتمع الصغير الى شرائح تجد نفسها بحاجة الى الدفاع عن نفسها في غياب القانون المدني الذي يجرم ويقف بحزم ضد من يستخدم أي لغة بإمكانها الإساءة الى طائفة أو قبيلة أو منطقة بغض النظر عن الهدف من وراء ذلك. لكي تعيش اثنيات وأعراق مختلفة تحت كنف دولة مدنية وقانون مدني من غير الممكن أن تفرض فئة أو طائفة نظرتها الخاصة على بقية شرائح المجتمع. الذي يحتاجه المجتمع المدني اليوم هو اعادة الجميع الى الوطن واعادة الوطن الى الجميع. على حفلات الشتم والسب ولغة الانحطاط أن تتوقف وأن نعود الى لغة الحوار الراقي والذي يليق بتجربة ديمقراطية ينظر لها الآخرون بعين الحسد. اذا لم يتحقق ذلك فلن تتركوا لأبنائكم ما يترحمون به عليكم. ألا هل بلغت اللهم فاشهد.