لا يجوز استغراب أن يذهب رئيس دولة الجنوب السوداني إلى إسرائيل في زيارة مميزة، فهذا ما زرعته يدا عمر حسن البشير وكل الذين سبقوه وما يحصده الإسرائيليون، وكان المفترض، وقد وقع ما وقع وحصل الانفصال، ألا تُناصب الخرطوم هذه الدولة الجديدة العداء، وألا تطارد الجنوبيين وتطردهم من وظائفهم وأعمالهم وأشغالهم وتلغي جنسياتهم وتصادر جوازات سفرهم، وتلقيهم خارج حدود بلدٍ عاشوا فيه هم وآباؤهم وأجدادهم وأجداد أجدادهم مئات بل ربما آلاف السنين على أنه بلدهم ولا بلد لهم غيره.

Ad

عندما انهار الاتحاد السوفياتي في بدايات تسعينيات القرن الماضي، وانفصلت عن روسيا كل الجمهوريات الإسلامية وغير الإسلامية، التي كانت جزءاً لا يتجزأ من الدولة «البولشفية»، التي أسسها حزب لينين وستالين وأيضاً تروتسكي على أنقاض إمبراطورية آل رومانوف، لم يقم يالتسن بما قام به عمر حسن البشير، وترك لأبناء هذه الجمهوريات التي انفصلت وغدت مستقلة أن يحتفظوا بالمواطنة الجديدة، وأن يبقوا في مناصبهم حتى العليا والحساسة، وقد تم التعامل معهم منذ ذلك الحين إلى الآن على أنهم روس حقيقيون، ولهذا فإن بعضهم لا يزال يحتل مواقع السفراء والوزراء وقادة الأجهزة الأمنية، وبقي التعامل معهم على أنهم مواطنون من الدرجة الأولى.

هذا في روسيا التي استطاعت استيعاب كل مَن اختارها دولة له من أبناء الجمهوريات التي غدت مستقلة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، ومن بينها العديد من الجمهوريات الإسلامية، أما في دولة عمر حسن البشير فإن الأمر مختلف حيث منذ اليوم الأول لإعلان قيام دولة الجنوب المستقلة بدأت عمليات سحب جوازات الجنوبيين وأوراقهم الثبوتية، وبدأ طردهم من وظائفهم، وبالطبع بدون تعويضات، وأخذت شاحنات «الترانسفير» تأخذهم في اتجاه الجنوب وتتركهم على الحدود بين البلدين السودانيين اللذين كانا منذ أشهر قليلة خلت بلداً واحداً ودولة واحدة، تحت رحمة السماء وفوق قسوة الأرض في ظروف بائسة لا تُحتَمل.

كان على الجنرال عمر حسن البشير حتى يحل مشكلة النفط مع حكومة الجنوب، التي لا تزال تتكلم العربية والتي يشكل المسلمون نسبة رئيسية من بين سكانها، أن يحتضن الجنوبيين وأن يعاملهم كمواطنين في بلدهم وألا يسمح بالإساءة إليهم، وأن يحافظ على أعراضهم وأملاكهم. لو حصل هذا ولو لم تكن هناك تلك التصرفات «الخسيسة» والمطاردات الهمجية لكانت هناك إمكانية معقولة لحلٍّ لا غُبن فيه لأهل الشمال ولا اعتراض عليه من قبل الجنوب بالنسبة إلى النفط ونقله من منابعه الجنوبية إلى مراكز تصديره على البحر الأحمر.

لقد بقي الجنوب بعدما ضمّه البريطانيون إلى الدولة السودانية جزءاً من هذه الدولة، ولكن بحقوق أقل كثيراً من حقوق الشماليين وبمواطنة ناقصة، وهذا ما شكّل ثغرة كي تسعى الدول الطامعة في خيرات هذا البلد وفي نفطه ومياهه إلى بلورة حركة انفصالية قادها جون غرنغ الذي كان ضابطاً كبيراً في الجيش السوداني، ولعل ما لا يعرفه كثيرون أن معمر القذافي الذي نال الجزاء الذي يستحقه على أيدي أبناء الشعب الليبي، قد ساهم في هذه المؤامرة بالمال والسلاح والسياسة نكاية برفيق دربه جعفر النميري، ونكاية بالقادة السودانيين الذين رفضوا ولايته عليهم وعلى بلدهم. ولهذا ولأن أهل الجنوب قد ذاقوا الأمرّين في الفترة التي نصّب حسن الترابي نفسَه فيها أميراً للمؤمنين ورفع راية الفتوحات الإسلامية في هذه المنطقة، وفي دول القارة السوداء المجاورة، وأيضاً في فترة ما بعد انفصال واستقلال جنوبهم، فإنه لا يجوز استغراب أن يقوم سيلفاكير ميارديت بهذه الزيارة التي قام بها إلى إسرائيل، وكان المفترض أن يبادر العرب إلى الانفتاح على هذه الدولة الوليدة «الشقيقة» وأن يقدموا لها ما تحتاج إليه لبناء نفسها، وأيضاً أن يضربوا على يد الجنرال البشير بيد من حديد، ليتوقف عن أعماله وممارساته الاستفزازية للجنوبيين ولدولتهم.