المكان، ديوانية الشيخ يوسف بن عيسى القناعي، المناسبة، الاحتفال بالمولد النبوي الشريف، بتاريخ 22 مارس عام 1910، لحظة وقف السيد ياسين الطبطبائي قائلاً: "ماذا يفيدكم أيها السادة استماع القصة إن لم تقتدوا بنبيكم صلى الله عليه وسلم. إن القصد من تلاوة المولد هو الاقتداء برسول الله، ولا نعرف سيرته حق المعرفة إلا بتعليمها، ولا نتعلمها إن لم تكن لنا مدارس ومعلمون يفيدون النشء... لا بدَّ من سراج يضيء طريقنا المظلم، ولا سراج كالعلم، ولا علم دون مدارس، فلنتعاون لنبعد عنا الأمية ونخلص أبناءنا من ظلام الجهل"*

Ad

هذه الكلمة الوجيزة والبليغة والواضحة كانت شرارة الخير الأولى التي انطلقت داعية لبعث حركة تعليم نظامية في الكويت. ولأن المتنورين من أهل الكويت، في حينه، كانوا على اتفاق بضرورة التحرك لنقل التعليم في الكويت من مرحلة الكتاتيب البسيطة إلى مرحلة التعليم النظامي الحديث، فلقد انبرى نفر منهم لتلقف وتفعيل هذه الفكرة النابهة، وكان على رأسهم الشيخ يوسف القناعي، حيث قاد حملة تبرع لتأسيس المشروع، بدأها بنفسه، وساهم في مرحلتها الأولى كل من: آل خالد، وشملان بن علي بن سيف ابن علي، وهلال بن فجحان المطيري، بعدها جرى اكتتاب لعموم أهل الكويت، ولقد جاء التبرع الأهم والأكبر من أثرياء الكويت في الهند، السيدين: قاسم الإبراهيم وابن عمه عبدالرحمن الإبراهيم، بينما تبرع آل خالد بمنزل قديم لهم في وسط مدينة الكويت ليكون الأرض التي تبنى عليها المدرسة. وفعلاً قام البناء في ظرف تسعة أشهر، وانتهى في شهر سبتمبر 1911، وقد افتتحت المدرسة أبوابها بتاريخ 22 ديسمبر 1911، بعد أن أطلق عليها اسم "المدرسة المباركية" تيمناً ونسبة إلى أمير البلاد، وقتذاك، سمو الشيخ مبارك الصباح، والتحق بها عند افتتاحها 254 تلميذاً، وعين الشيخ يوسف بن عيسى القناعي مديراً لها.

أرى أنه يمكن التأريخ لحركة التنوير في الكويت بدءاً بافتتاح المدرسة المباركية، التي يصادف بعد غد الخميس الذكرى المئوية لذلك الحدث الكبير. مع الأخذ بعين الاعتبار أنها جاءت بمبادرة شعبية، وبما يظهر دور النخب الفكرية المتنورة في قياد حركة التنوير في أي أمة من الأمم. فلقد كان لحالة التعلم والعلم في الكويت وضع يختلف تماماً عما تمخض عنه التعليم النظامي، في فتح فصول دراسية وانتقال التعليم من دراسة وحفظ القرآن الكريم، إلى دراسة تتواءم ومتطلبات العصر، حيث القراءة والكتابة والحساب، وأضيف إليها لاحقا مواد تعليمية أخرى كاللغة الإنكليزية، كما توجت هذه الجهود بافتتاح مدارس لتعليم البنات، بما أكمل مسيرة العلم، وأنصف الفتاة كونها نصف المجتمع، وشريكة الرجل في تربية الأجيال وفي البناء والتعمير.

إن بدء الدراسة في "المباركية" كان بمنزلة البذرة الطيبة التي غرسها جيل من الآباء المتنورين، الذين آمنوا بأهمية العلم في صنع حضارة الأمم، ونذروا أنفسهم لتحقيق مشروع مقدس، وتحملوا في سبيله صعابا كبيرة، كي يثمر أجيالاً من النابهين الذين حملوا لواء العلم، وأكملوا المسيرة، بعد خروجهم في بعثات دراسية إلى العراق ومصر، وعودتهم بشهادات عليا، كانت مشاعل نور تهدي الآخرين إلى تمثلها، وكانت أحد أهم الأسباب التي وفرت للكويت سبقاً ريادياً ثقافياً وفكرياً وفنياً في محيطها الخليجي.

إن قصة بناء أول مدرسة نظامية في الكويت، تظهر بوضوح الدور الريادي التنويري المناط بالنخب الفكرية والثقافية والأدبية، بضرورة قدرتها على قراءة الحاضر ببوصلة ثاقبة، والتفكير بمشاريع مستقبلية رائدة تعود بالنفع على الكويت، وتشكل ملمح نور باقٍ على مر الأزمان.

* تاريخ التعليم في الكويت، دراسة توثيقية، عن مركز البحوث والدراسات الكويتية، 2002.