ليلة لشعائر كارمينا

نشر في 14-07-2011
آخر تحديث 14-07-2011 | 00:01
No Image Caption
 فوزي كريم دعوة من صديق لكونسيرت في «قاعة المهرجان الملكية» في «الساوث بانك». الهدف هو الاستماع إلى عمل الألماني «كارل أورف» (1895- 1982) «كارمينا بورانا». سماع عمل كهذا يستدعي حماساً يليق بعنصري «الإيقاع» البدائي، و»اللحن» الشعائري، لأن عنصر «الميلودي»، وهو ثالث عناصر الموسيقى الكلاسيكية، يكاد يكون غائباً عن هذا العمل تماماً.

لم أطلع على منهاج الحفل، على أني سرعان ما اكتشفت أن «كارمينا بورانا» تحتل القسم الثاني من الحفل، أما القسم الأول فيحظى بعملين كوراليين لقائد الأوركسترا، الذي وقف أمامنا محتفياً بعيد ميلاده الستين: رونالد كورب (مواليد1951).

بعد انتهاء الحفل تبين لي أنني خضت غمار أعمال لا تستقل فيها الموسيقى عن الشعر. كنت أحسب لذلك بعض الحساب مع «كارمينا بورانا». لأني أعرف قصائدها الرائعة الأربع والعشرين، وأعرف كيف عثر عليها كارل أورف في بيوت الرهبان في القرن الثالث عشر، وأني نشرت النصوص كاملة في واحدة من أعداد مجلتي «اللحظة الشعرية» (التي أوقفتها بفعل موجة الاحتقار الشعرية الكاسحة لموسيقى الشعر، في إيقاعها، ولحنها وميلوديتها!). ولكن قائد الأوركسترا «كورب» توّج عمليه بإكليل هذه العلاقة الملهمة. ففي عمله الأول «عابر السبيل»، الذي احتفى فيه بالموسيقي النمساوي «مالر» بمناسبة مرور مئة سنة على وفاته، انتخب من الأخير قصائد من عمل معروف له باسم «أغاني عابر سبيل»، وقد حاول انتزاعها من المسحة «المالرية» الحزينة، ومنحها لمسة بهيجة. وفي عمله الثاني «وانطلقت كلُّ الأبواق» وقف على أعتاب الحماقة التي ابتكرها الإنسان ضد نفسه، حماقة الحرب. انتخب قصائد من شعراء كانوا شهوداً عليها (ولت ويتمان) في الحرب الأهلية الأميركية، أو ضحية لها (روبرت بروك، أدورد توماس، تشارلس سورلي، وألفريد أوين). هؤلاء كانوا من أروع الأصوات الشعرية الإنكليزية التي قُتلت شابة في أتون الحرب العالمية الأولى.

«كورب» قرَن أتونَ الحرب بيوم الدينونة، وجعل الأبواق شاهداً على هذا، أعطى ألحان القصائد لصوت الباريتون (طبقة الغناء الرجالية الوسطى)، في حين انتخب بضع آيات «نذيرية» من الكتاب المقدس، وأعطى ألحانها لصوت كورس الأطفال: «يوم اللعنة، الذي سيحيل العالم إلى رماد».

متابعةُ النص الشعري، مع الإصغاء للحن، مغذيةٌ لأكثر من مجس لدى الكائن. الأمر الذي افتقدته في النصف الأول من العزف. ولكني بعد أن حصلت على «المنهاج» في النصف الثاني، وراجعت النصوص، كنت أتوق إلى معاودة اللحن الذي تدفق من قصيدة ولت ويتمان: «ساهراً في أرض المعركة ذات ليلة...». ولتأمل اللحن الذي تلبّس بيت «روبرت بروك»: «انطلقي أيتها الأبواق فوق غِنى الموتى!.... فالموت جعل منا هدايا أكثر ندرة من الذهب.»

بقي الكورس الضخم في العملين على حاله مع «كارمينا بورانا»، حافلاً بلباس موزّع على ألوان براقة عديدة، وهي الألوان ذاتها التي انتخبها «كارل أورف» في أول عرض للعمل عام 1937.

«كارمينا بورانا»، في الأصل، مخطوطة لاتينية لأغانٍ تعود إلى القرن الثالث عشر، تم العثور عليها في دير للرهبان، يقع على سفوح جبال الألب البافارية. ثم حُققت، ونُشرت من قبل باحث ألماني يُدعى شميلر في عام 1847.

القصائد قصيرة، تنطوي على جوهر أغنية. ومغنوها يؤدونها على آلة القيثارة. جُمعت من قصائد لشعراء من فرنسا وألمانيا وإيطاليا وإنكلترا. إلى أن جاء كارل أورف ليضع موسيقاها بين عامي 1935 و1936. بعد العرض الأول كتب «كارل أورف» لناشره الموسيقي: «لكَ أن تُتلف كل شيء كتبته إلى الآن، وقمت أنت للأسف بنشره. مع كارمينا بورانا تبدأ مجموعة أعمالي».

إن الجذر الشعائري، البدائي في العمل يوحي لنا بأن شيئاً ما غامضاً وسرياً كامن فيه. لكن موسيقى أورف دفعت بهذا الجذر الغامض إلى ذائقة عصرنا، بفعل تدفق إيقاعها المتواصل (تأثراً بالروسي الطليعي سترافنسكي). وتوفير قدر من الاضطراب في الهارموني، وحركة النمو. ولكنها، رغم هذا الاضطراب، ذات ألحان سهلة البقاء في الذاكرة.

الرائع في هذا العمل أن الذائقة الأدبية في سماعه تجد كفايتها من المتعة هي الأخرى.

back to top