حوارية العين واللون
تُشكل التجربة التشكيلية للفنان العُماني موسى عمر فرادة خاصة في مجمل سياق التجربة التشكيلية في عُمان، تتمثل هذه الفرادة في خصائص أولية منها ذلك التنويع الأولى لمنابع الطفولة القلقة، ذات الصيغ الحلمية، ثم إنشاء عالم آخر يكاد يُشكل محوراً مركزياً في أعماله هو عالم المدينة. وقد جمع الفنان أعماله في كتابين أحدهما «المدن الحالمة» والثاني «مدني الملونة». وقد استطاع موسى عمر، بذكاء حاذق ووعي تشكيلي لافت يتطور باستمرار، إعادة صياغة هذا البعد البصري الممهور بوعي شقي غالباً، إلى نوع من التصالح والشفافية مع الذات، أعني أن الأمر لا يتعلق بمدن حالمة وإنما بمدن «محلوم بها» ولا ترى إلا بعين الطفل اليقظة، أو بالأحرى مدن مستحضرة من خيال الطفل. هكذا لا يرى الناظر في لوحاته مدناً «واقعية» إنما مدن خيالية مرتبطة ببعض مفردات مدن الواقع، وبعد عمليات حذف وإزاحة يتشكل أمام المتلقي جوهر المدينة كرموز وعلامات مستدعاة من ذاكرة حية، أي انها عمليات تركيبية قد تصل في مراحل لاحقة إلى ذروة التصعيد الشعري، إنها مدن أسطورية محلقة في فضاء اللوحة. ففي أعماله تظهر أشكال البيوت والأسوار والمآذن والأقواس على خلفية ليل بحري وهلال يشع بلون أبيض داكن، تظهر في هذه الأعمال الدعة وجذور المكان كمقتربات روحية، وقد عمد الفنان إلى استلهام ملامح بعض أشكال المعمار العُماني التقليدي، هذا بالإضافة إلى استخدام مواد وخامات محلية كالحصير والخيش والخشب والصلصال، لخلق عوالم يمكن منها رصد المدينة في إطار كلي ومن منظور مختلف برؤية بصرية محلقة في الفضاء. ويلاحظ أن مجمل أعماله ما هي إلا تنويع آخر للمدينة. وهي ثمة يشتغل عليها الفنان إلى أن يستنفذ ذاته في الموضوع، ففي كل مرة تختلف زاوية النظر لتشكل التجربة مرحلة فنية من مراحل الفنان، غير أن هذا التنويع الذي حققه موسى عمر للمدينة يتجاوز في بعض أعماله الحدود الظاهرية، الساكنة ليدخل إلى عمق وزوايا الحراك الاجتماعي، ففي عمليه «من أساطير المدينة» و»الأقنعة المزيفة» وهما عملان يعودان إلى البدايات، يستبصر الفنان بعين الطفل أيضاً، أشكالاً من أقنعة المدينة، بنوع من التعبيرية المتجددة والعالية، فالناظر إلى الخطوط السميكة، وإلى خشونة الأجساد والوجوه الحارة القوية، يظن أنه أمام أشكال ذات أنماط بدائية. وهناك أعمال أخرى أشبه بفسحة للراحة، يبتعد فيها الفنان أو يقترب قليلاً من موتيفاته الأصلية، الأثيرة لديه، كما يلاحظ أيضاً، أنه لم يتخل عن بهجة اللون كما في عمليه «العناق» و»العذراء»، وهو أحياناً يصرخ بالألوان ويكاد يقارب حدود التجريد، لكن مجمل القول ان المدن الحالمة، تمتاز أكثر من غيرها بلحظات الصفاء الخالص والاشتغال بدقة وحرفية عاليتين. هنا بالضبط تكمن قوة اللوحة أو العمل الفني، إنها اشتغالات لا تسلم نفسها لأحد بسهولة، لأنها ببساطة تختفي حال رؤيتها، ولا يظل منها في الأخير سوى ذلك المسار الحاد في التجربة الإبداعية، فلقد أصبح ذلك الطفل الآن يمتلك بعداً مأساوياً. إنه يلقي نظرة رثائية على مدنه الحالمة. إن أعمال الفنان موسى عمر الأخيرة أشبه بتكوين لاندثارات واستنطاق لرموز الموت، أعمال كأنها نحتت فوق سفوح جبل من أزمان غابرة، لقد اختفت ألوانه الحارة المبهجة وأصبحت أقرب إلى لون التراب و»الجسد الغائب»، ان هذه الاشتغالات البارزة والقريبة من العمل النحتي مليئة بالعناصر «الطللية»، فهناك القبور والأكفان والرموز وأشكال الحروفيات البارزة، فأنت تجد أحياناً سهماً وصليباً هنا، وقمراً وبقايا حفريات مندثرة هناك، باختصار، إنه مسار الفاجعة والرحيل والألم وحوارية لامعة بين العين واللون.