الخطاب الديني والثورة
الخطاب الديني، شئنا أم أبينا، هو أحد أهم الخطابات الثقافية والاجتماعية والدينية في الوطن العربي، وهو بالتأكيد ليس خطابا دينيا يحمل وجهة نظر ثابتة أو أحادية بل على العكس هناك أكثر من خطاب ديني، ولكن المقصود هنا هو الخطاب الأكثر شيوعا والذي يمثل صوت المؤسسة الدينية التي تم تكريس وجودها لسنوات طويلة تحت رعاية السلطة ومباركتها. وتحالف السلطة في أغلب الأحيان مع التيار الديني السائد كان يهدف دائما الى منحها الشرعية واضفاء صفة القدسية على بقائها.ارتبك الخطاب الديني في الأحداث الأخيرة للربيع العربي، وكان أمام خيارات محيرة حاله في ذلك حال جميع الخطابات اليسارية والقومية والاشتراكية. وكان الأكثر إرباكا وارتباكا هو خطاب المؤسسة الدينية الأكثر التصاقا بالسلطة، والتي وجدت الرعاية الكاملة منها أيام نشوتها.
وتقدم لنا الحالة اليمنية أنموذجا فريدا يستحق المتابعة لفهم طبيعة التفكير الديني أو القائمين على قيادة هذا التفكير. الحكومة اليمنية بقيادة السيد علي عبدالله صالح تقدم مشروعها كدولة جماهيرية ديمقراطية يحكمها نظام برلماني مؤسسي والسلطة فيها للشعب. وحين يثور الشعب على السلطة تفقد الأخيرة أساس بقائها وعليها أن ترضخ لما يطالب به الشعب وأن ترحل حاملة معها فشل سنوات طويلة لم تستطع خلالها اقناع الشعب من جدوى بقائها. ولكن الحالة اليمنية أظهرت السلطة بصورة المستبد الذي يؤمن بأن بقاءه أكثر ضرورة من بقاء الشعب. وهنا يتذكر السيد صالح أنه رعى المؤسسة الدينية و"علماءها" في الرخاء وعليه أن يستفيد من خطابهم في الشدة. ولأن الصوت الأكثر تأثيرا على العقل العربي والقبلي خصوصا هو الصوت الديني فلقد أخرج مجاميع هائلة من حملة الخطاب الديني التي تبرر ضرورة الالتزام بالشريعة وطاعة ولي الأمر وعدم الخروج على الحاكم والنصح له في السر وما الى ذلك من تداعيات الخطاب المعروفة. وفي المقابل تم تغييب أصحاب الخطاب الديني المغاير الذين يدعون الى رضوخ الرئيس الى ارادة الشعب وعليه أن يحظى بمبايعته ورضاه عن أدائه، والخطابان يستمدان أدلتهما من شريعة واحدة ومنهج واحد كل منهما يحمله على الوجهة التي يريدها.الإعلام اليمني حتى هذه اللحظة هو الإعلام الرسمي للسيد الرئيس والصوت الديني الأكثر بروزا هو صوت المناصرين للرئيس، بينما يستغل المغايرون منابر أقل انتشارا الا أنها أشد تأثيرا. وارتفاع أعداد المناهضين للسيد الرئيس ولأصحاب الخطاب الديني المؤيد له وصورهم المهيبة في الساحات والميادين يدل على عدم صمود خطاب هؤلاء "العلماء" ووعاظ السلطان أمام رغبة الناس بالتغيير وايمانهم الراسخ بعدم جدوى هكذا مبررات تستغل الدين في تبرير الظلم والفقر.الخطاب الديني هنا ليس ببعيد عن الخطاب القومي الذي يستغله الرئيس بشار الأسد والذي يتصور أن القومية العربية تحفر قبرها بيدها اذا انهار النظام البعثي في سورية. مشكلة الأسد انه لم يرع علماء الدين لاستغلالهم في أوقات هكذا شدة ولو فعل لما اختلف خطابهم عن خطاب زملائهم في اليمن السعيد.