في رسالة sms عبر الموبايل تقول لي صديقتي المقيمة في لندن: (الدنيا بيضاااااااء)... ! كانت بذلك تصف لي نديف الثلج وهو يغطي الدنيا هناك، فينكأ فيَّ الذكريات الغافية على ذراع الأيام الخوالي. هكذا اعتاد الشتاء أن يكون خلاصة العام وخميرة الذكريات. 

Ad

للشتاء وتحولات الفصول إحالات نفسية بليغة الدلالة، بعضها يرتبط بمخزون الصور والتذكارات، وبعضها يتلامس وروح الطبيعة الحية المنسربة في الكون وفينا، وبعضها يتجلى في ما يشع منا من طاقات الخيال والحدس والتراسل مع القوى الكونية. فلا غرابة إذن أن نشعر بهذا التناغم النفسي والروحي مع دورات الفصول وتبدلات المواسم الطبيعية: فنضجر من وطأة الصيف، ونزدهر حين يقبل الربيع، ونصفرّ مع الخريف، وننكفئ حين يجيء الشتاء على الذكريات البعيدة والأحزان الغامضة! 

ولعل خير ما يمثل هذه السيمفونية من التناغم النفسي مع تحولات الفصول، ما نراه في الشعر والغناء على وجه الخصوص لدى كل الشعوب. فالشعر الغربي الرومانسي مثلاً يزخر بإحالات غنية إلى كل ما يتصل بروح الطبيعة المتحولة وما تشعه من مشاعر ومعانٍ وأسرار وغموض لا يُحدّ. أما شعر (الهايكو) الياباني فأحد شروط تميزه، أن يوحي بأحد فصول السنة ويومئ إليه. ويأتي الشعر المُغنى بثرائه الموسيقي فيجعل لعزيف الريح وخشخشة الأوراق الذابلة وانتحاب المطر بُعداً نفسياً وروحياً أوغل أثراً وأبعد مدى! من منا لا يتذوق تلك اللذعة المعتقة من الحزن الغامض الجميل في صوت فيروز وهي تغني (ورقو الأصفر شهر أيلول ذكرني فيك... رجع أيلول وانت بعيد بغيمة حزينة قمرها وحيد... بيصير يبكّيني شتا أيلول... ويفيقني عليك يا حبيبي... ليالي شتا أيلول بتشبه عينيك). أما انتحابها وراء أطياف الراحلين المدلجين في غابة الشتاء والغياب والثلج فشيء لا يصدق: (وحدهن بيبقوا متل هالغيم العتيق... وحدهم ووجوهن وعتمة طريق... عم يقطعوا الغابة... وبإيدهم متل الشتا يدقوا البكي وهن على بوابي... يا رايحين وتلج... ما عاد بدكم ترجعوا؟... صرّخ عليهم في الشتا يا ديب بلكي بيسمعوا)! 

وللشاعر صلاح عبدالصبور مع الشتاء مشاعر ملتبسة، تتمحور حول الانتهاء والموت والعمر الفارغ من المسرات، ما خلا ذلك الحدس المفعم بالتوقع والنبوءة: ينبئني شتاء هذا العام أنني أموت وحدي/ ذات شتاء مثله ذات شتاء/ ينبئني هذا المساءُ أنني أموت وحدي/ ذات مساء مثله ذات مساء/ وأن أعوامي التي مضتْ كانت هباء/ وأنني أقيم في العراء/ ينبئني شتاء هذا العام أن داخلي/ مرتجف برداً/ وأن قلبي ميّت منذ الخريف... 

ولعله ليس من الغريب أن نسمع هذه النغمة الشاحبة الملبدة بالحزن الشتوي من شاعر مكتئب مثل صلاح عبدالصبور، ولكن الغريب أن تكون لأحزان الشتاء هذه العدوى التي تؤثر حتى في شاعر مثل نزار قباني طالما احتفل بمباهج الحياة ومسراتها. يقول نزار قباني في نص بعنوان (حبيبة وشتاء): 

... وكان الوعد أن تأتي شتاءً/ لقد رحل الشتا ومضى الربيعُ 

وأقفرت الدروبُ فلا حكايا/ تطرزها، ولا ثوبٌ بديعُ 

وهاجر كل عصفورٍ صديقٍ/ ومات الطيبُ وارتمتْ الجذوعُ 

حبيبة... قد تقضّى العام عنّا/ ولم يسعدْ بكِ الكوخُ الوديعُ 

ففي بابي يُرى أيلولُ يبكي/ وفوق زجاجِ نافذتي دموعُ 

ويسعلُ صدرُ موقدتي لهيباً/ فيسخنُ في شراييني النجيعُ 

وتلتفتُ الستائرُ في حنينٍ/ وتذهلُ لوحة... ويجوعُ جوعُ 

هذا حال الغناء والشعر حين يتماسّ مع غموض الشتاء ولذعته المعتقة. أما على المستوى الشخصي فالشتاء يرتبط في ذهني بنهايات عام ينصرف وآخر يأتي، وبأيام تنقضي، وحسبة عمر تمرّ مرّ السحاب. وها هو ديسمبر شيخ الشهور يلملم ثيابه ويعلن الرحيل، لترحل معه الأيام والأعمار والمسرات والأحزان. فيا أيها الطائر الأبيض الذي للتو غادر غصن القلب... وداعاً.