من أطرف ما قيل في استنكار ما تفعله آلة الزمن بالإنسان، وما تصيبه به من تبدل وهدم لعنفوانه وشبابه، هذا القول:
وأنكرتني وما كان الذي نكرتْ من الحوادثِ إلا الشيبَ والصلعا وإن كان هناك شبه قبول واستسلام في نبرة الشاعر القديم لما آل إليه حاله، إلا أن الغالبية العظمى في زماننا هذا يصرون على أن يعيشوا زمنهم وزمن غيرهم، غير آبهين بشيبهم وصلعهم واضمحلال قواهم النفسية والذهنية والجسدية! نرى هذا في المواقع الوظيفية والمراكز القيادية ومراتب الوجاهة الاجتماعية، والأدهى من ذلك في مجال الفن التمثيلي والغنائي. والعجيب في أمر المجال الأخير أن المطرب (أو المطربة) يظل على الاعتقاد بسطوع نجمه وفرادة حنجرته الذهبية– التي لم تعد كذلك مع التقدم في العمر -، ويقينه بأنه مايزال معبود الجماهير وقبلة المعجبين! وكأنه لا يشعر بمنعطفات الزمن ومتغيرات الذوق العام، وحاجة الأجيال الجديدة إلى وجوه طازجة وحناجر طرية! ولعلنا نتساءل في هذا المقام عن وجاهة استدعاء فنانين مثل حسين جاسم وعبدالكريم عبدالقادر لتسجيل ألبومات جديدة؟ وعن أسباب بقاء فنانين مثل محمد عبده ووردة على منصات الغناء إلى الآن بعد أن نفد زمنهم واكتمل دورهم؟ والأدهى من ذلك استنكار ما يتطوع به مقدمو البرامج من المتملقين، وسؤالهم كلما التقوا أحد هؤلاء: مشتاقون إلى جديدكم، هل هناك مشاريع في الطريق؟! أما في حالة الفنانين من الممثلين فالمأزق أكثر صعوبة. هذا إذا أخذنا بعين الاعتبار مسألة المظهر والطلة التي عادة ما تكون لها الأولوية في تقييمهم لذواتهم وفي علاقتهم بالأضواء والشاشة. فما إن يقلب لهم العمر ظهر المجن حتى يبدأ التهافت على عمليات التجميل من ترميم وتصليح لما أفسده الدهر. وغالباً ما تكون المحاولات ظاهرة للعيان، وشاهدة على اللهاث الشديد وراء القبض على اللحظة ووقف عجلة الزمن. في إجابتها عن سؤال صحافي حول سبب اعتزالها المبكر، قالت الراحلة هند رستم: «كنتُ أتمنى أن تظل صورتي في أذهان الناس كما شاهدوني في أفلامي الأولى وألا تهتز هذه الصورة إذا قدمتُ أفلاماً وأنا كبيرة في السن». وحسناً فعلت هند رستم. وليت مجايلتها (صباح) اتعظت بهذه المقولة وكفت عن تسويق طلتها (المبهرجة) قبل أن تبلغ من العمر الزمني والفني أرذله! لسنا في معرض التفكّه بحقيقة تقدم الإنسان بالعمر، فتلك من طبيعة الكائنات الحية الخاضعة لقانون الحياة الأزلي، ولكن الاستنكار يأتي في معرض معاندة البعض لقوانين الطبيعة، الأمر الذي يقود للتصابي والتحايل المرضي، وفقدان الإنسان لتلك الطمأنينة والأمن أثناء الإبحار الوئيد نحو شيخوخة جميلة وبهية. بيد أن المراحل التي يقطعها الإنسان في حياته ليس بالضرورة مرتبطة بالتقدم بالعمر، وإنما قد يصل الإنسان إلى مرحلة ما في مشواره الحياتي، ثم يستشعر أنه استنفد ما لديه من عطاء وطاقة في هذا المجال، وعليه أن يقول: هذا يكفي. فيدله قلبه إلى منعطف آخر يفجّر فيه طاقاته وإبداعاته. هكذا فعلت أوبرا ونفري حين أنهت حلقات برنامجها الشهير وودعت الملايين رغم النجاح الساحق الذي أحرزه هذا البرنامج. وهكذا فعل زاهي وهبي وودع (خليك بالبيت)، البرنامج الأشهر والأجمل بين البرامج الثقافية، دون تردد أو ندم. فلعل الآتي أفضل وأنسب، ودوام الحال من المحال، والمهم أن يعرف الإنسان بحدسه وذكائه الغريزي كيف يتخذ هذه الخطوة المهمة نحو التغيير، ومتى. للكثير من المنتجات الاستهلاكية تواريخ انتهاء الصلاحية، وكذلك لجهد الإنسان وطاقته وإرثه الإبداعي والمهني. وما عليه إلا مراجعة تاريخ انتهاء صلاحيته، لئلا يفسد القطاف.
توابل
لعبة الزمن
06-09-2011