يحق لكل عربي أن يفخر بثورة الشعب المصري التي طوت صفحة التوريث في الأنظمة الجمهورية العربية، وفتحت الطريق مع شقيقتها الثورة التونسية للتعددية والديمقراطية في العالم العربي الذي عانى كثيراً من حكم الفرد والحزب الواحد.

Ad

الثورة المصرية كانت مثالية في سلميتها والتضحيات التي قدمت للحفاظ عليها حتى تحقيق أهدافها بإسقاط نظام حسني مبارك المتهالك، ورغم مثالية وعظمة هذه الثورة فإنها وحسب ما تشهده الساحة المصرية من أحداث تنحرف عن مسارها، ويتلاعب بها الغوغاء، ويحاول سلبها المتطرفون والأصوليون، ومن ينفذون مؤامرات خارجية تنسجها قوة إقليمية غير عربية.

مصر تعيش مرحلة انتقالية شديدة الأهمية وبالغة الخطورة ستغير نتائجها المنطقة العربية كلها، وهذه المرحلة تحتاج إلى الحزم في اتخاذ القرار، وحفظ الأمن والسلم الاجتماعي المصري، ولذلك فإن حالة التردد والاستجابة لكل ما يطلبه الشارع في مصر عن حق أو باطل ستطيل مرحلة عدم الاستقرار والخسائر الفادحة التي يدفعها المصريون منذ أشهر بسبب تحول الصورة الراسخة لمصر الأمان والاستقرار، إلى واقع جديد تتسيده الفوضى والبلطجية ومطالب الغوغائيين في دولة ذات مؤسسات راسخة وعريقة منذ عهد محمد علي باشا في القرن التاسع عشر، ولكنها تتحول حالياً إلى مرحلة التسيب والنيل من هيبة العسكر من رجال الأمن والجيش وهو ما لم يحدث في معظم حركات التغيير الشعبية، وفي تجربة ثورات دول أوروبا الشرقية التي كانت تقوم فيها أجهزة الأمن بانتهاكات كبيرة ضد شعوبها، فإن المؤسسة الأمنية والعسكرية لم تفقد هيبتها ومكانتها بعد سقوط أنظمتها الشيوعية، وتم تطهيرها وإصلاحها لتعود لممارسة دورها المهم، وعاد الأوروبيون الشرقيون بعد ثوراتهم لأعمالهم وتركوا بناء بنية دولهم الديمقراطية الجديدة لأصحاب الاختصاص ومؤسسات الدولة، ولكن في الحالة المصرية فإن تواصل التجاوز على المؤسسات الأمنية والعسكرية والنيل من هيبتها يطرح تساؤلات حول كيفية الحفاظ على أمن وحقوق المواطنين في مدن وتجمعات سكانية مكتظة بعشرات الملايين من السكان في حاضرة وأقاليم مصر!

ومن مطالب الشارع المصري المبالغ فيها كان مشهد جلب الرئيس المصري السابق حسني مبارك إلى المحكمة على فراش متنقل وقد تجاوز الثمانين من العمر، وهو أحد المطالب التي حققها المجلس العسكري للمحتجين في الشارع المصري ولا يحظى بإجماع المصريين الذين عبر الكثيرون منهم ميدانياً عن رفضهم له.

وبلا شك فإن استمرار هذه الحالة سيستنزف جهود المصريين في محاسبة الماضي بكل تفاصيله الطويلة والمملة، بينما تجاوز الكثير من الأمم هذه المرحلة عبر المصالحة مع الماضي والاكتفاء بتثبيت لائحة اتهامات ضد من أساؤوا لبلدهم خلال مراحل توليهم للسلطة.

ومن الأمثلة المهمة في هذا السياق ما حدث للرئيس التشيلي الأسبق أوجستو بينوشيه الذي حكم مدة 27 عاما، رغم الفارق مقارنةً بمبارك، إذ إن بينوشيه المسن جاء للحكم عبر انقلاب عسكري، وشهدت حقبته انتهاكات كبيرة لحقوق الإنسان ومع ذلك رأت الأمة التشيلية في مرحلة ما أنهم يفضلون طي هذا الفصل الحزين بدلاً من الوصول به إلى نهايته بما سيشكله من نزاعات وجهود، ونجح أهل تشيلي مع الوقت في التصالح مع الماضي وأن يعيشوا معاً في سلام... وهو الأمر الذي يجب أن يتداول فيه المصريون مع الحفاظ على حق استرجاعهم لثرواتهم وتعويض وتكريم شهداء الثورة وكل من تم التجاوز على حقوقه، حتى يمروا سريعاً من المرحلة الانتقالية الحالية إلى مرحلة من الاستقرار تؤدي إلى مستقبل أفضل.