عباس متحدياً!

نشر في 03-10-2011
آخر تحديث 03-10-2011 | 00:01
No Image Caption
 د. عبدالحميد الأنصاري استُقبل الرئيس الفلسطيني عباس استقبال الأبطال لدى وصوله إلى رام الله، الآلاف أتوا يحملون الأعلام الفلسطينية وصور الراحل عرفات وصوره وشعارات "فلسطين الدولة 194"، خطب عباس في الجماهير: ذهبت إلى الأمم المتحدة أحمل آمالكم وأحلامكم وطموحاتكم وعذاباتكم ورؤيتكم للمستقبل وحاجتكم إلى دولة مستقلة، وقلنا للعالم إن هناك الربيع العربي لكن الربيع الفلسطيني موجود هنا، وحمّس الجماهير "ارفعوا رؤوسكم فأنتم فلسطينيون"، مؤكداً: لا عودة للمفاوضات إلا بمرجعية الشرعية الدولية، حدود الرابع من يونيو1967، والوقف الكامل للاستيطان.

وكان عباس عائداً من نيويورك بعد تقديمه طلب العضوية الكاملة لدولة لفلسطين وعاصمتها القدس الشرقية، وقد ألقى خطاباً حماسياً من على منبر الجمعية العامة تابعه الملايين عبر الفضائيات، كما استقبل استقبالاً حاراً من قبل الوفود في الجمعية العامة، ودوت القاعة بالتصفيق حين دخوله لأكثر من 3 دقائق، فماذا قال عباس في خطابه البلاغي الذي استغرق 50 دقيقة؟

عمد عباس إلى استثارة وجدان المجتمع الدولي ومخاطبة ضمائر الشعوب الحرة بقوله: جئتكم من الأرض المقدسة لأتحدث باسم الشعب الفلسطيني في الوطن وفي الشتات لأقول بعد 63 عاماً من عذابات النكبة، كفى، آن لشعبي أن ينال حريته واستقلاله وتنتهي معاناته، إن شعبي ينتظر سماع كلمتكم، فهل تسمحون بأن يبقى هو الشعب الوحيد المحتل في العالم؟! هل تسمحون لإسرائيل أن تبقى فوق القانون والمساءلة ورفض قراراتكم؟!

أكد عباس إيمان الفلسطينيين بالسلام، وهم قبلوا بالعدل النسبي وارتضوا إقامة دولتهم على 22% من أراضي فلسطين التاريخية مقدمين تنازلاً هائلاً في سبيل السلام، وثابروا على التفاوض وتجاوبوا مع المبادرات كافة بمسؤولية، لكنهم أُحبطوا في النهاية واصطدموا بصخرة المشروع التوسعي الاستيطاني، ومضى عباس متحدثاً، حتى إذا لوح بنسخة من رسالة الطلب الفلسطيني رافعاً يده بها هبت القاعة وقوفاً تصفق بحرارة.

وإذ ثمّن مواقف الدول المؤيدة لنضال وحقوق الشعب الفلسطيني ودولته مع إعلان الاستقلال 1988، فإنه أكد الجاهزية الكاملة للشعب الفلسطيني ومؤسساته لإقامة دولة فلسطين الحرة فوراً؛ تقييم البنك الدولي وصندوق النقد الدولي يؤكدان: أن السلطة الفلسطينية حققت إنجازات فاقت الحد الأدنى لدولة ناجحة في مختلف قطاعات الخدمات والأمن والقانون والعدالة ومحو الأمية والتنمية الاقتصادية والرعاية الصحية والإيرادات والنفقات، بالرغم من كل معوقات الاحتلال وقيوده، وهو ما عجزت عنه دول عديدة متمتعة بعضوية كاملة.

كما ضجت القاعة بالتصفيق عندما رفض أبو مازن الاعتراف بيهودية إسرائيل، وأيضاً: عندما ذكرهم بخطاب الراحل عرفات رحمه الله تعالى في مناشدته المجتمع الدولي عدم إسقاط غصن الزيتون من يده عام 1974، كان الخطاب حماسياً بلاغياً مؤثراً، كيف وهو أستاذ البلاغة والبيان؟!

لقد قوطع خطابه من قبل الوفود الدولية وقوفاً وتصفيقاً أكثر من 7 مرات، كما ألهب الخطاب حماسة الجماهير الفلسطينية التي كانت تتابع عبر شاشات عملاقة في ساحات المدن الفلسطينية، بينما كانت مكبرات المساجد تردد التكبيرات فور انتهاء الخطاب لتمتلئ الساحات باحتفالات وأهازيج وطنية: "أعلنها يا شعبي، أعلنها دولة فلسطين"، ولكن ماذا بعد التصفيق الحماسي والتظاهرات المؤيدة؟!

إن العالم لا يتعامل إلا مع لغة المصالح لا المبادئ ولا العواطف، فما مواقف الدول من المسعى الفلسطيني لنيل العضوية الكاملة؟!

كان من الطبيعي أن تعارض إسرائيل وتهدد بفرض عقوبات، ولم نعد نستغرب موقف إدارة أوباما التي شنت حرباً ضروساً ضد التحرك الفلسطيني، وهددت بقطع العلاقات ووقف المساعدات- أميركا أكبر دولة مانحة للفلسطينين بـ500 مليون دولار سنوياً– فأوباما اليوم في أضعف أحواله سياسياً ويستجدي دعم اللوبي الصهيوني لتجديد ولايته الثانية، فحاول بكل جهد أن يثني عباس عن عزمه عبر ممارسة ضغوط اللحظة الأخيرة ومقابلة عباس وتحذيره بأنه سيستخدم "الفيتو"، لكن الفلسطينيين وعلى لسان شعث قالوا: لن ننقذ أوباما ليفوز بفترة جديدة على حساب قضيتنا، وحاولت أطراف أخرى إغراء عباس بصفقة جديدة ترفع مستوى فلسطين من "كيان بصفة مراقب" إلى "دولة مراقبة" كالفاتيكان تشارك في الأعمال والاجتماعات دون حق التصويت، لكن عباس أبى ومضى متحدياً!

حجتهم أن دولة فلسطين لا تقوم بمبادرة أحادية إنما عبر مفاوضات توصل إلى اتفاق سلام، وقد كذبوا، فأي مفاوضات هذه لا نهاية لها بينما إسرائيل تلتهم أراضي الفلسطينيين كل يوم؟!

لذلك فنّد عباس دعوة الأحادية بقوله أمام الجمعية العامة "عندما نأتي بمظلمتنا وقضيتنا إلى هذا المنبر الأممي، وهذا تأكيد على اعتمادنا للخيار السياسي والدبلوماسي، وتأكيد أننا لا نقوم بخطوات من جانب واحد"، وما لا أفهمه ولا أهضمه هذا الموقف البائس لـ"حماس" التي وقفت منذ البداية تندد بتحرك عباس وتشكك في دوافعه، بل تمنع المظاهرات المؤيدة للمسعى الفلسطيني! ثم هاجمت خطابه ووصفته بالفارغ! لماذا؟!

لأن شعبنا لا يتسول الدول! ولأن الدول تحرر أراضيها وتقيم كيانها ولا تقام بقرارات أممية! إلى غيرها من المقولات الوهمية الزائفة التي لا حمت حقاً ولا استردت أرضاً ولا صانت كرامة تخدع بها "حماس" الجماهير تغطية على عجزها السياسي وسوء إدارتها لغزة.

وبذلك وقفت "حماس" في صف حكومة نتنياهو في الاعتراض على التحرك الفلسطيني، شذوذاً عن الرأي العام الفلسطيني والعربي والإسلامي، ونكاية بعباس لأنه لم يستشرها وخشية من زيادة شعبيته في الداخل والخارج على حسابها، ولكن هل كان عباس بمنأى من هجوم "حماس" لو رضخ للتهديدات الأميركية وتخلى عن الذهاب للأمم المتحدة؟! لا أظن فعباس متهم بالخيانة العظمى في نظر "حماس" وأنصارها ذهب أم لم يذهب!

إذا استثنينا مواقف هؤلاء البؤساء الثلاثة فإن المسعى الفلسطيني مؤيد بإجماع عربي رسمي عبر لجنة المتابعة التي عقدت 5 اجتماعات، وخرجت بقرار إجماعي بالتوجه للأمم المتحدة، وشعبي عام عبر التظاهرات المليونية في 4 دول عربية إضافة إلى تصريح شيخ الأزهر الذي ناشد العالم الحر الوقوف إلى جانب فلسطين، وبالتالي فإن عباس لا يمثل الموقف الفلسطيني وحده بل إنه يمثل الموقف العربي عامة.

وقد عبرت الدول العربية المشاركة في خطابات الجمعية العامة تأييدها للتحرك الفلسطيني، وانضمت إليها دول مثل البرازيل وتركيا، لذلك يرى معظم المراقبين أن التحرك الفلسطيني خطوة مفصلية مهمة وشجاعة، وقد جاءت في وقتها لتشكل أكبر تحدٍ لإسرائيل منذ سنوات، يوضحه خالد الحروب بقوله: إن هذه الخطوة تمثل الجولة الأولى من المعركة، وقد أنجزت 3 مكتسبات كبيرة: الأول: انتزاع زمام المبادرة والفعل من العدو والحكم معاً، أي إسرائيل وأميركا، الثاني: الانتفاضة على الضغوط الأميركية الهائلة، الثالث: خلق زخم وطني وشعبي كان الشعب الفلسطيني بأمس الحاجة إليه.

الآن: ما حظوظ الفلسطينيين في ولادة دولتهم؟ المعروف أنه على مستوى الجمعية العامة هناك أكثر من 130 دولة مؤيدة لقيام دولة فلسطين، وأما على مستوى مجلس الأمن فالمصادر االفلسطينية تؤكد وجود 8 أصوات مضمونة هي: روسيا، والصين، والهند، وجنوب إفريقيا، والبرازيل، ولبنان، ونيجيريا، والغابون، والجهود مبذولة لضمان الصوت التاسع لإحدى الدولتين: كولومبيا أو البوسنة، لكن الضغوط الأميركية ووعودها ووعيدها هائلة عليهما.

وهنا يأتي الدور العربي والخليجي خصوصاً لأقول: اليوم يومكم يا عرب، وفلسطين تناديكم وتريد فزعتكم، اليوم يوم أموالكم واستثماراتكم ومساعداتكم لنصرة فلسطين، اشتروا الصوت الذهبي بأي ثمن! لا تفزعكم إدارة أوباما ولا تغلبكم، فهي في أضعف أوضاعها: سياسياً واقتصادياً وعسكرياً، وحلفاؤها بدؤوا يتخلون عنها، وإذا تمكن العرب من تأمين الصوت التاسع فإن أوباما لن يجرؤ على استخدام "الفيتو" لأنه يدرك تماماً حجم المخاطر التي ستتعرض لها المصالح الأميركية في المنطقة، في ظل ثورات الربيع العربي التي غيرت وعي الجماهير العربية.

أوباما يدرك أنه إذا استخدم الفيتو، فكأنه يطلق الرصاصة على نفسه، ستشتعل المنطقة كراهية ضد الأميركيين وسيستثمر دعاة الصدام عندنا هذه المشاعر العدائية في إلحاق أكبر الأضرار بالمصالح الأميركية، وهنا نتذكر خطاب سمو أمير دولة قطر عندما حذر- ناصحاً صادقاً- أمام الجمعية العامة من التعنت الإسرائيلي ووقوف أميركا بجانبها، وقال: إن أميركا ستتعرض لغضبة عربية شديدة إذا استخدمت "الفيتو"، لأن المعادلة السياسية تغيرت في المنطقة، وما كان مقبولاً من قبل لم يعد مقبولاً بعد ثورات الربيع العربي.

ويبقى في الختام الإشادة بالدور القطري النشط الذي نقل ملف الاعتراف بالدولة الفلسطينية إلى الأمم المتحدة، الأمر الذي قال عنه عباس بأن قطر شكلت عاملاً إيجابياً كبيراً قبل مجيئنا إلى الأمم المتحدة.

* كاتب قطري

back to top