ملتقى عمّان للقصة
قد يرى البعض أن نهوض المدينة العربية، من حجر سباتها الثقيل، واشتعالها بثورات أبنائها السلمية، وارتفاع كلمة الحرية المزلزِلة بين جنباتها، يمثل الظاهرة الأهم في وقتنا الراهن، وأن هذه الظاهرة الإنسانية بامتياز، في خروج المواطنين، بصدور عارية، يهتفون للخلاص من القمع والظلم، مطالبين بالتغير والعيش الكريم، تستحق وحدها الوقوف والتأمل والدراسة، وأن ذلك قد يكون أدعى لأن يصمت المفكرون والكتّاب والفنانون، ولو لفترة قصيرة، يحجمون خلالها عن التنظير لحركة الجماهير. وذلك بعد أن بادر عامة الشعب، بعفوية لافتة، وبغالبية شبابية، إلى الخروج على الطاغية والاستبداد، واستلام دفة الأمر، وفضلوا التعبير بلسان حالهم عن قسوة ووجع حياتهم وبؤسها المرير، مسجلين بدمائهم الزكية سابقة إنسانية شعبية، وخارطة طريق لا يمكن التراجع عنها، ووجوب إكمال مسيرتها حتى النهاية، فالقادم المنتَظَر لن يكون، بأي حال من الأحوال، أسوأ من القائم المتوحش.في هذه الأجواء، وبتنظيم من «أمانة عمّان الكبرى»، انعقد خلال الأسبوع الفائت «ملتقى عمّان الثالث للقصة». اجتمع قصاصون وروائيون ونقاد من كل الأقطار العربية، يصاحبهم جمهور ثقافي كبير، حول مائدة الملتقى، في جلسات صباحية في «مركز الحسين»، ومسائية في «بيت تايكي»، ووحدها القصة القصيرة، هذا الجنس الأدبي الفاتن والمغري والصعب حد الإعجاز، كان الحاضر المتسيد. وكم كان دالاً حضور الوجع العربي الإنساني الهادر، في القلب من أعمال الملتقى، سواء بشهادات القادمين من عواصمهم الملتهبة، أو عبر بحوث وأوراق وقصص الملتقى.
قد يكون للملتقيات والمؤتمرات الأدبية والثقافية فائدة بحثية، وقد يكون لها مردود تنظيري كبير، لكني أرى أن فائدتها الأهم تكمن في لقاء ووصل المبدع والمثقف العربي، بزميله المبدع الآخر من جهة، وجمهور القراءة والتلقي من جهة ثانية. فالبرغم من أن العالم يعيش عصر ثورة المعلومات والاتصال، وأنه بفضل مواقع الوصل الاجتماعي، تحوّل إلى قرية صغيرة، إلا أن المبدع العربي مازال يعاني التهميشَ والغربة وصعوبة وضعف الوصل بينه وبين زميله المبدع العربي، في مختلف الأقطار العربية. يُحسب للقائمين على أمانة عمّان، وتنظيم الملتقى، اهتمامهم الكبير والمتواصل بفن القصة القصيرة، وإصرارهم على تنظيم ملتقاهم السنوي القصصي، بعد أن اجتاحت مقولة «زمن الرواية» الساحة الإبداعية والثقافية العربية، وحملت معها جمهور القراءة، إلى رقعة الرواية الساحرة، وربما أعاد هذا الاهتمام، شيئاً من الألق والحياة لفن القصة القصيرة الجميل.ملتقى عمّان الثالث للقصة، كان مناسبة ثقافية هامة، للوقوف على أهم انجازات القصة القصيرة العربية، من خلال شهادات وقراءات المشاركين، وعبر لقاء القصاصين والنقاد والتواصل مع نتاجهم الإبداعي القصصي، وكذلك متابعة والتأمل في الكتابات النقدية القصصية، وكيف تسنى لها قراءة ورؤية المنجز القصصي العربي. إضافة إلى الورشة القصصية التي أدارها القاص عدي مدنات، يحيط به مجموعة من الكتّاب الشباب، حاملين في قلوبهم ولعاً بالحياة، وتوقاً إلى ترجمة ذلك قصصاً مبدعة، تعيد تشكيل الوقع الإنساني القائم، بخلق واقعٍ فني موازٍ يفسر الحياة، ويمنح الإنسان القدرة على احتمالها. ولقد كان تكريم القاص والأديب محمود الريماوي في القلب من الملتقى، بادرة وفاءٍ وتقدير لكاتب مبدع قدم الكثير لفن القصة القصيرة العربية، خاصة ولفتة الملتقى الطيبة، بطباعة وتوزيع مجموعته القصصية الأخيرة.تُخيفني الغربة كأشد ما يمضّ الخوف في القلب، تهجم عليَّ بأنيابها القاسية لحظة أكون وحدي، لذا تقترن كل مدينة، في خاطري، بأسماء عددٍ من الأصدقاء الكتّاب والفنانين والمثقفين، فلقاؤهم يبثّ في القلب الطمأنينة، ومعهم أعاود حديثاً انقطع لكنه ظل موصولاً بعاطفة وقرب فكري يزداد تأكيداً يوماً بعد يوم.