محمود الحاج محمد في كان يحتطب الريح يتسلم عصا الملك صغيراً... وبلا وصيّ

نشر في 19-10-2011 | 00:04
آخر تحديث 19-10-2011 | 00:04
No Image Caption
أنتجت الحداثة الشعرية أجيالا تدّعي القصيدة، ذلك لأن باب الحداثة الواسع يسمح بالدخول للجميع شرط أن يكونوا متأبطين ورقة وقلماً، بغضّ النظر عن الموهبة الشعرية التي إن لم تكن وحدها تصنع الشاعر العظيم فهي بلا أدنى شكّ شرط وجوده الأول. هذا الكلام لا يعني مطلقاً أن الملتزمين بكلاسيكية الشعر العربي هم كلّهم شعراء، فلا بدّ من الاعتراف أيضاً بأنّ مدّعي الشعر من أنصار الكلاسيكية هم أكثر من الهمّ على القلب.

محمود الحاج محمد، السوريّ، الحلبيّ، الفاتح عينيه لضوء الدنيا عام 1992، ينشر بطاقة هوية شعرية له، هي كناية عن كتاب عنوانه «كان يحتطب الريح» صادر عن دار «الغاوون»، وهو لا يزال على مقاعد الدراسة.

كما كانت القبيلة العربية تفرح بميلاد شاعر وتحرس خيمته بكلّ ما في صدرها من دعاء ورجاء، يفرح اليوم عشاق الكلمة المنذورة للجمال حين يفاجئهم ديوان لشاعر فتيّ يفتح نافذته على حديقة القصيدة بيد واثقة ثقة بصّارة خبيرة بأنّ الفنجان لا يمكن أن يخون أصابعها ويسقط أرضاً.

إذا كان عنوان الحاج محمد «كان يحتطب الريح» الطاعن في العبثية صياغة جديدة لعناوين لم تعد جديدة، فإن مضمون الديوان يفاجئ إلى حدّ الصّعق. فالشاعر الفتى تمشي قصيدته أمامه، ويظهر قدرة مميزة جداً في صناعة القصيدة الكلاسيكية، وقصيدة التفعيلة أيضاً، وتبدو اللغة على علاقة حميمة به، إذ تتركه، وهو مجترح جمالاته، يعدّل ترتيب أضلاعها في قفصها الصدري، ووالموسيقى تستوطن جملته عادلة في توزيع نغمها على المفردات.

يرى محمود الحاج محمد في قصيدة «ولادة» الافتتاحية أنّه يولد من رحم القصيدة مختاراً ولادته هذه المرّة، يولد بلا منّة القابلة، وهو والد نفسه، إذ هو الوالد والوليد في آن: «الآن أولد وحدي... كفُّ قابلتي: / كلّ الذين عن اللاشيء قد نَبَشوا». يكرّر هذا الكلام عبثية العنوان، فالشاعر المهوي بفأسه على جذوع شجر الريح مأخوذ بالعَرَق المتصبّب من جباه العبثيين الذين احترفوا النبش عن اللاشيء واستطيبوا السراب ماء في كؤوسهم الناشدة حقيقة قد تكون مشكلتها الوحيدة أنّها غير موجودة. ويطوّب محتطب الريح اللغة أمّا مؤمنا بأنّ الحليب يقطر من ثديها محرّضا على المغامرة بأشرعة تائقة إلى فضّ بكارة المجهول: «الآن أولد... لا ثدي سوى لغتي / ولا فراشا سوى المجهول أفترش». أمّا طموح الشاعر فهو أن يجترح الكلمة التي تمتطي نسغها جسراً إلى الخلود لتقرأ عين الزمان غداً وتعلن: «هذا الذي مذ رضعنا من أصابعه / حبرا، إلى اليوم يحدونا له العطش».

في قصيدة «كان يحتطب الريح» يستعمر الحنين الشاعر ويحمله إلى الأمس الذي لا تزال ظلاله موشومة على الروح: «كان يحتطب الريح بالحلم / (والحلم فأس الطفولة في غابة الغد)»، فالطفولة تمدّ يدها إلى الغد وتقبض على اتجاهات رياحه، ولها منه ما للفأس من الغابة، وكم هو جميل وحقيقي الاعتراف بأنّ الأمس حصّاد الغد، وبأنّ ما مضى من الزمان إلى الأمام لا إلى الوراء. نعرف هذه الحقيقة كلّما تغلغل أمسنا في دقائق غدنا... ويظهر التفاوت في هذه القصيدة التي تتّصف بجمالية الرمز والإيحاء في مكان وبالهدر اللغويّ والمباشرة التي لا تقول شيئا في الشعر في مكان آخر: «دفاتر منزوعة الدفّتين / طريق إلى صفّه / كتب، دون مكتبة، تستحيل بلاطا وسقفا لغرفته / حلم بانتهاء الدروس المملة / كعكة عيد توبّخه أمّه حين يسرقها دون إذن»... ومن العلامات الفارقة في ديوان الحاج محمد الأوّل أن الشاعر في قصيدته الكلاسيكية وقصيدة التفعيلة يحافظ على اللعبة الشعرية أكثر، ويأتي بما لا يأتيه في النص المتحرر من الوزن والقافية، على خلاف المتوقّع والمحتمل، لأنّ القافية والوزن يمارسان التضييق على الشاعر، بالمطلق، بينما النص الحرّ يساعد صاحبه على تجنّب الهدر في اللغة لأنه نصّ بلا شروط إذا صحّ التعبير. إلا أنّ الحاج محمّد لا ينطبق عليه هذا «المتوقع»، ولا هذا «المحتمل» فهو يحترف الإبداع تحت سقف شروط النصّ الشعري وقوانينه أكثر ممّا يحترفه حرّا من كلّ قيد وشرط. وعلى هذا الرأي أكثر من دليل في الديوان، فها هي قصيدة «الوحيد كحجرة في المعجم» تأتي بالماء إلى طاحونتي: «حاملا لغتي، على كتفي، أسير / وحاملا شكّي.. / أنا خزّاف شكّ ينحت المعنى / ويكسره على صخر الأكيد». نعم، إن الحاج محمد خزّاف لغة، ونحات أنيق الأزاميل، وباستطاعته، كما أثبت، أن ينجو من الحشو، ويقطّب بالخيط الذهب الكلمة على أختها، ويؤدي نصًّا موزونًا ومقفّى، لا قافية فيه تبدو دخيلة على مناخ مفردات الجملة ومعانيها، ولا إيقاع يفشل في أن يسيل فضّة في عروق الكلمات.

يتقن الحاج محمد النصّ القصير، ويعرف كيف يجعله ممتلئًا حين لا يسكنه أكثر من فكرة: «في انتظارك / أرمي الحصا فوق ظلّي على الماء: / لا! / لا أريد شريكا يقاسمني لذّة الانتظار» حتّى ظلّه، يريده غريقًا في الماء لا صورة على صفحة الماء فالانتظار حصّة الشاعر وحده، ولذّته التي لا تنفصل عن لذّة اللقاء. في نصّ آخر يقول: «تماما / كنرد قد امّحت النّقط السود عن جسمه: / يرتمي وعدك المصطفى / فوق طاولتي». في تعبير الحاج محمد مناخ جديد، يتّصف بالميل إلى البساطة الخدّاعة كالماء الموحي باللاعمق غير أنّ زائره يفاجأ بأنّ الغرق هو أوّل ساكن لهذا الماء. فالعلاقة التي نسجها الشاعر بين النرد الذي ما عاد يستطيع اصطياد الحظّ بعد إمّحاء مبرّر وجوده وبين أحد الوعود الأنثوية تحمل الجدّة، وتجمع بين القرب والبعد، فلا تترك الواضح في الكلام ينجو من الغامض ولا تأذن للمباشر بأن يتّقي الضباب. غير أنّ حامل الريح إلى المواقد، يقع في التجربة من حين إلى آخر، وأقصد تجربة الحداثة التي لا تميّز بين جديد جميل وجديد أقلّ ما يقال فيه إنّه غير موفّق، ومثالا على ذلك: «يعتذر للأمل عن الجرح / وهو يدعكه بالبنّ / أو بروث دابّة مضغتْ أعشاب اليأس». قد يكون الحاج محمد، وهذه مسألة طبيعية، لم يحسم اختياره في الاتجاه الشعري بعد، لكنّ قارئه يخشى عليه التنازل عن ذهبه في القصيدة الكلاسيكية وقصيدة التفعيلة، والانتساب إلى حزب الحداثة العملاق عددًا، على مستوى حملة الأقلام فيه، الذين عبثًا يسعون إلى التميّز، فهم أسرى نفق الطلسمة والسهولة التي تنتج الكثير من الكلام العاجز عن أن يكون سندبادًا يزور جزر الدهشة واحدة تلو الأخرى على بساط القصيدة.

ويُخشى على محتطب الريح المثقل بالموهبة، المبشّر بألف خير شعريّ، أن يقع في فخّ الإصدار السنويّ، ويدير ظهره للتعب الجميل فيبخل على قصيدته بالوقت الذي تستحقّه، ويغريه المديح الذي يدعوه إلى أن يقيس نفسه على غيره من شعراء عصره. نعم، لا بدّ من الخشية، على شاعر كبير، واعد، يتأبّط حلمًا شعريًا بحجم أمّة. نعم، فليقس محمود الحاج محمد نفسه على نفسه، فهو شاهق وعليه أن يتسلّق ذاته إلى قمّتها ليكون محتطب الريح اليوم صاحب مملكة شعريّة يورثها كلّ غدٍ لغدٍ يأتي بعده.

back to top