دستور مجنون!
إن التعديلات التي تتم الدعوة إليها في تعزيز الديمقراطية وتقوية السلطة التشريعية، تأتي في سياق الحراك السياسي العربي النشط الذي بدأ يجني ثماره عبر الضغط الشعبي والعنصر الشبابي تحديداً، ومع ذلك فهي ليست بجديدة على الإطلاق في الإرث السياسي الكويتي بالذات، ومن يراجع مضابط جلسات المجلس التأسيسي عام يدرك تماماً أن هذه الطموحات كانت متأصلة في أذهان الكثير من رجالات الكويت.لا أستغرب على الإطلاق الهجوم المنظم على بعض الكتابات والتصريحات المطالبة بتعديل الدستور، خصوصاً من قبل الشخصيات والتيارات والنواب في جناح المعارضة، حيث يتهم هؤلاء بأنهم رفعوا بالأمس القريب شعار "إلا الدستور" واليوم ينادون بتعديله في مسلك متناقض!
وقد يكون منتقدو التعديلات الدستورية المطروحة حالياً أفهم بكثير من غيرهم، بأن اتهاماتهم مجرد مغالطة كبيرة في عنوانها، ولكنها سطحية وضحلة في مضمونها؛ لأنهم يدركون بشكل جيد حقيقة تلك التعديلات الطموحة، والنتائج السياسية التي يمكن أن تسفر عنها، كما أن المنتقدين أنفسهم يعلمون تماماً أن شعار "إلا الدستور" لا يتعارض أو يتناقض مع الدعوة إلى تعديل الدستور، بل يعاضدها ويكملها، فـ"إلا الدستور" من جانب كان بداية حملة لمواجهة نسف مواد دستور 1992 وتفريغها من محتواها والالتفاف على حصانة النواب وتعطيل أدوات المساءلة، وباختصار المحافظة على هذه الوثيقة التاريخية. أما التعديلات المقترحة فهي طموحات سياسية تهدف إلى المزيد من الحريات وتسعى إلى تعميق الديمقراطية وآفاقها وتوسيع دائرة المشاركة الشعبية والدعوة إلى الحكومة البرلمانية بمعناها الحقيقي، وكل ذلك من خلال القنوات الدستورية ومن داخل رحمها، وليس عبر الالتفاف على الدستور وخرقه والانقلاب عليه، الأمر الذي دأب المنتقدون أنفسهم على مباركته والتطبيل له ليس الآن ولكن منذ عام 1964!ومن جهة أخرى، فإن التعديلات التي تتم الدعوة إليها في تعزيز الديمقراطية وتقوية السلطة التشريعية، تأتي في سياق الحراك السياسي العربي النشط الذي بدأ يجني ثماره عبر الضغط الشعبي والعنصر الشبابي تحديداً، ومع ذلك فهي ليست بجديدة على الإطلاق في الإرث السياسي الكويتي بالذات، ومن يراجع مضابط جلسات المجلس التأسيسي عام 1961 ومحاضر اجتماعات لجنة صياغة الدستور الماراثونية على وجه الخصوص يدرك تماماً أن الطموحات السياسية التي ينادي بها البعض اليوم كانت متأصلة في أذهان الكثير من رجالات الكويت ومن انتخبهم الشعب الكويتي آنذاك لإعداد الدستور، بل دافعوا عنها بالحجة والبينة وبكل قوة ودخلوا بسقف عال من المطالب الشعبية، ولولا ذلك الإصرار والنقاش المحتدم مع الحكومة في تلك الحقبة لما ولد دستورنا الحالي، والأكثر من ذلك، فإن طبيعة النقاش في لجنة صياغة الدستور توحي بشكل واضح وجلي بأن ما اتفق عليه كان بمنزلة مرحلة أولية للعمل بالدستور؛ على أمل القيام بتنفيذ تلك التعديلات وباتجاه المزيد من الحريات والمكاسب بعد خمس سنوات.ولكن السؤال الخطير يحوم حول إمكان تحقيق مثل هذه المكاسب الدستورية الجديدة في ظل الظروف السياسية القائمة وممارسات الحكومة التي ستكون شريكاً رئيساً في جميع الخطوات العملية لأي مشروع من شأنه تعديل الدستور، خصوصاً على خلفية المحاولة الحكومية البائسة في هذا الشأن عام 1980، وفي ظل التركيبة الحالية لمجلس الأمة الذي يجب أن يقر التعديلات الدستورية النهائية بأغلبية الثلثين؟وبصراحة وعلى الرغم من النوايا النبيلة لتعديل الدستور إنه يُخشى أن يختطف هذا المشروع لينتهي بنا المطاف إلى دستور مجنون!