صدر عن «مؤسسة الفكر العربي» في بيروت كتاب «وجوه من زمن النهضة» للكاتب والصحافي اللبناني ابراهيم العريس، ليكون العدد السادس من سلسلة كتب «معارف» التي تصدرها المؤسّسة شهرياً.
يستعيد العريس في مؤلفه الجديد أسماء كتّاب نهضويين أثروا الفكر العربي بنتاجهم خلال الفترة الممتدة من الخمسينيات وصولاً إلى بداية القرن الحالي. تحمل عناوين الفصول التي تتناول المفكرين النهضويين، علاوة على اسم المفكّر، خلاصة قراءة العريس لفكره، فجاءت على النحو التالي: نجيب محفوظ ذكريات شخصية ومحاولة أولية لقراءة أعماله، يحيى حقي عين ترصد التخلّف وعين تواكب السير إلى الأمام، روز اليوسف إسمها الأصلي فاطمة اليوسف، ابنة طرابلس اليتيمة التي أسست مسرحاً وصالة، توفيق الحكيم مسار متألّق بين روح تعود ووعي مفقود، عباس محمود العقاد ساخر موسوعي صنع نفسه بنفسه، طه حسين البحث عن نهضة تستوعب العصر وتهضم الأصالة، محمد كرد علي الانفتاح على العالم دواء لجمودنا وتخلّفنا، جبران خليل جبران أحلى الحقائق تكون أكثر جمالاً وفائدة حين لا تقال، أمين الريحاني أديب وشاعر ومؤرخ أم مبعوث أميركي في المنطقة، شكيب إرسلان نحو حلّ أمثل لمشكلة العلاقة بين العروبة والإسلام، جرجي زيدان الإسلام ضرورة عربية والأديب كاتب عمومي، محمد رشيد رضا عودة إلى الجذور على أن ندرس علوم الغرب وتقنياته، عبد الرحمن الكواكبي بين حب القاهرة واستبداد اسطنبول ولدت الفكرة العربية، جمال الدين الأفغاني ألغاز في الحياة وفي الممات، رفاعة الطهطاوي عين ترصد وعقل ضد الانغلاق على الذات.يستعيد العريس مع هؤلاء المفكرين والكتاب حقبة من التاريخ الثقافي العربي المعاصر ومن خلاله ملامح مسيرتهم الفكرية والميادين التي خاضوها والمجالات التي تطرّقوا إليها، والطابع الإشكالي الذي وسم نصوصهم بحثاً ودراسة وتحليلاً، إضافة إلى محاولات التجاوز والتخطّي التي مارسوها لكل ما هو تقليدي ومغلق في مجتمعاتهم، سواء من خلال البحث في النصوص المقفلة أو من خلال الاحتكاك بثقافة الحضارة الغربية.يبدأ المؤلّف من رفاعة الطهطاوي ورحلته الباريسية التي انعكست على كتابه الشهير «تخليص الإبريز» وبدا ذلك من خلال مواقفه الداعمة لتعليم المرأة والتقدّم العلمي والقانون والمساواة والحرية، على أن رحلة الطهطاوي الباريسية، التي شكّلت نقطة تحوّل، ليس في حياة هذا المفكر فحسب، بل أيضاً في نسيج الثقافة العربية وفي نسيج المجتمع العربي. فـ{تخليص الإبريز» يختلف جذرياً عن كلّ كتب الرحلات والانطباعات التي نعرفها، سواء أكانت كتباً وضعها غربيون عن زياراتهم إلى الشرق، أم كتباً وضعها شرقيون عن زيارتهم إلى الغرب، لأن الطهطاوي وكما ورد في الكتاب - كان يقيم على الدوام نوعاً من المقارنة بين ما يراه «هنا» ويعرفه «هناك»، لكن محكومة دائماً بمبدأ عقلي لا مراء فيه، مبدأ عقلي قد يصل أحياناً إلى حدود التلفيق والتوفيق، حين نرى الشيخ وهو يتمنّى لو اجتمع في هذا المجال أو في تلك الظاهرة «أحسن ما عندنا» و{أحسن ما عندهم».الأفغاني يتناول العريس بالتحليل الأسئلة كافة التي طرحتها هوية جمال الدين الأفغاني وما قيل في فكره، وما كتبه عنه كبار المؤرخين من أمثال جرجي زيدان وسليم العنهوري وآخرين. ثم يعرض لأبرز محطات حياة جرجي زيدان الذي لجأ إلى مصر هرباً من ظلم الدولة العثمانية وجورها، وكان له الفضل في تأسيس مجلة «الهلال» المصرية، وأثار مسألتين مهمتين هما مسألة التأقلم العربي ومسألة الإبقاء على الهوية العربية.كذلك يخوض المؤلف في فكر شكيب إرسلان المفكر السياسي، ويفنّد الإشكاليات التي طرحها كتابه الأشهر «لماذا تأخر المسلمون وتقدّم غيرهم»، ومبررات دعوته إلى الوحدة الإسلامية، ومطالبته الحثيثة لرابطة بين المسلمين أعلى وأرقى.شدّد الكتاب على عروبة النهضويين. فكان الكواكبي، الذي اعتبر أن العرب رواد الإسلام وممثلوه الأكثر نقاء، يعلن أن الخلافة ينبغي أن تكون لهم، وأن تستعاد من العثمانيّين غير الجديرين بها. السلطنة وحدها قد تكون جديرة بهم. وعبر هذا الكلام الذي كان فريداً من نوعه في ذلك الحين، يظهر اهتمام الكواكبي بإعادة الاعتبار إلى الجنس العربي الذي كان فقد الأسبقية في الدولة الإسلامية منذ عهد الأمويّين، وبهذا المعنى عبّر «عن يقظة الوعي لدى العرب، لكن هذا لا يمكن أن يتمّ إلا عبر الإسلام: أي أن الكواكبي، في كلمات أخرى، لا يعبّر بصورة مباشرة عن مطلب عربي خالص بل عن مطلب إسلامي: إنه في سبيل إعادة الاعتبار إلى الإسلام في عظمته الأولى يقترح أن تعود الخلافة إلى الجنس الذي كان جعل للدولة الإسلامية تلك العظمة».جبرانيطرح إبراهيم العريس سؤالاً رئيساً حول أدب جبران خليل جبران والسيرة الجبرانية عموماً، مثيراً مسألة نتاجه الذي لم يخضع حتى اليوم لدراسة منهجية عميقة، واهتمام النقاد والكتاب بالأسطورة الجبرانية وشخصية الكاتب وانتمائه اللبناني وحسب، عارضاً لسيرة حافلة بالمآسي ونظريات جبران في بلده وفي قضايا فلسفية وإنسانية كونية إلى جانب علاقاته العاطفية بكل من ماري هاسكل والكاتبة مي زيادة. ويفتح الكتاب النقاش على فكر محمد كرد علي وأسلوبه الخلدوني، والأديب طه حسين أو «فولتير مصر» كما لقّبه العرب، قارئاً في أدواره الجذرية المتعددة التي أسهمت في الانتقال بالإنسان العربي من التخلّف إلى التقدّم، وملقياً الضوء على جوانب مهمة مما كتبه طه حسين في مجال الفكر والأدب والإصلاح والتاريخ واللغة أيضاً، ودوره في إرساء عقلانية الفكر والاستقلال في الرأي والتحرّر في البحث.يشكِّل هذا الكتاب إضافةً في هذا المجال، لتعريفه بفكر النهضة العربيّة الممتدّة من أواسط القرن التاسع عشر وحتى نهاية الربع الأول من القرن العشرين، ولا سيما تعريفه بالاتجاهات الفكرية المتنوّرة التي سادت الحياة الثقافية العربية في تلك الفترة الزمنية الواعدة من تاريخنا العربي الحديث. ولعلّه في هذا السياق يتميّز في منهجيّته التي تناولت حيوات وأفكار ومواقف ورؤى عدد من المفكرين العرب الأكثر تنوّراً، وصهرها من ثم في مزيج مبدع، يُدخل القارئ، على اختلاف مستوياته التعليميّة والثقافيّة، في صلب هذه الشخصية وإطارها البيئي والثقافي والاجتماعي والسياسي، ذلك من ضمن جدلية الخاص والعام، والفردي والمجتمعي، والذاتي والعمومي.
توابل
وجوه من زمن النهضة لإبراهيم العريس... الفكر العربيّ تحت المجهر
15-08-2011