رواية «الجراء» للكاتب المبدع ماريو فارغس يوسا هي مثال للفوضى الخلاقة، ومثال للحداثة المبكرة التي لم يعرفها العالم العربي إلا مؤخرا، بينما تعد هذه الرواية القصيرة والتي كتبها ماريو فرغاس يوسا في عام 1965 وهو بعمر 29 سنة. وكانت رواية الجراء هي روايته الرابعة وهو بهذا العمر المبكر، أي ان الإبداع يكون من بدايته مكتملا، ولا يحتاج إلى نضج المؤلف حتى يأتي بالرواية المبدعة المكتملة.

Ad

ومن ملامح هذه الرواية تظهر قدرة يوسا التي كبرت مع مرور الأيام، لكنها بقيت تحمل سمات حداثتها في فوضاها الخلاقة، فما زال يمارسها في جميع رواياته، بل إنها باتت معلما على عبقريته المبهرة والطازجة على الدوام.

هذه الرواية دراما موسيقية رفيعة المستوى، سريعة مكثفة ورشيقة الإيقاع، يلعب فيها يوسا دور المايسترو الماهر القادر على قيادة وتوزيع سيمفوني متوازن بتناغم منضبط، يعرف فيه متى يحرك الآلات بمفردها أو جميعها، متى تعلو أصواتها ومتى تنخفض، ومتى تدخل في اللعبة ومتى تخرج وتترك صوت المؤلف وحده ليعلو أحيانا بضمير المتكلم، وأحيانا بضمير الغائب.

مزيج من الفوضى الصوتية تتداخل على سطر واحد، أصوات أبطال الرواية، وهوهوة الكلب وفرامل السيارة والموسيقى الراقصة والأغاني المصاحبة لخطوات الرقص، وحركة أمواج البحر وهديرها، والعراك، والشتائم واللمسات وأشواط كرة القدم، كلها تلعب على ذات السطر الذي تتداخل فيه مع أفعالها.

جوقة من الأصوات الإنسانية وغير الإنسانية، كلها تتداخل وتتشارك في القفز واللعب على السطور إلى جانب صوت الكاتب ذاته واشتراكه بالأفعال والأقوال ومقاسمة أبطاله في اللعبة الدائرة بينهم.

هذه اللعبة التي لو لم يلعبها يوسا بذاته لخُلقت فوضى غير مفهومة ولا تحمل أي معنى وليس لها أي قيمة، لكن المايسترو يوسا استطاع أن» يدوزن» ويضبط اللعبة ويتحكم في فوضاها بحيث حولها إلى فوضى خلاقة.

أما كيف فعل ذلك، وكيف رتب فوضاه وجعل منها فوضى خلاقة؟ بأن ألحق بكل صوت اسم صاحبه على نفس السطر، وقام بتقسيم مراحل الزمن على المراحل المدرسية التي مر بها الطلاب الذين هم أبطال هذه الرواية، فبالتالي انتظمت الفوضى في خلق جديد خاص بها.

وهو الأمر ذاته الذي بات يتبعه الكثير من الكتاب المقلدين لحداثة يوسا لكنهم لا يفلحون في خلق فوضى خلاقة، بل يتيهون ويضيعون النص في فوضى لا يستطيع القارئ أن يفهم منها شيئا.

لماذا لم يفهمها القراء؟

السبب بكل بساطة هو أن كتاباتهم لم تُبن على أساس الشروط التي تحتاج إليها وتفرضها روايتهم بحد ذاتها، وليس ما احتاجت إليه شروط رواية يوسا التي حددت أسلوبها بهذا الشكل المناسب لعمر الصبية ولشقاوتهم، ولزمنهم المدرسي، ولطاقاتهم الهادرة في هذا العمر الصغير، لذا جاء النص صورة فوتوغرافية عكست واقع حياتهم وإيقاع حركتهم.

لذا جاءت الرواية في أسلوب وشكل درامي سريع مليء بضجيج الأصوات بكل أشكالها، فهي تعكس عمرهم وحركة زمنهم وهو الأمر الذي انصاعت إليه شروط هذه الرواية بالذات، وأملت شروطها هذه أو أوحت أو ألهمت الكاتب بها، فهو ليس على علم مسبق بالأسلوب الذي ستكون عليه.

القصة تحكي عن طلاب مدرسة متوسطة ينضم إليهم طالب جديد ثري يحبونه ويريدون ضمه معهم في فريق الكرة المدرسي، ويقضي الطالب الضعيف البنية الإجازة الصيفية كلها في التدريب الرياضي وفهم كل أسرار لعبة كرة القدم حتى اشتد عوده وانضم إلى فريقهم.

لكنه يتعرض إلى حادث خطير حين كان يأخذ دشا من بعد التمرين، فقد هاجمه كلب المدرسة الشرس، وعضه في عضوه الذكري، ومن هنا يبدأ التغير في سلوكه وحياته طوال الفترة الدراسية عبر المراحل المختلفة فيها.

الرواية ترصد هذا التغيير وانعكاسه على الطلاب وعلى زملائه وأصدقائه خاصة من بعد دخوله في مرحلة المراهقة التي يكتشف فيها عجزه عن ممارسة الجنس مثل زملائه.

الرواية بسيطة من حيث القصة ليس فيها التعقيد الزمني والمكاني الصعب، بل إنها ليست إلا لعبة جميلة ممتعة يلتهمها القارئ في ساعة واحدة وهو مبهور من فوضاها الخلاقة، ومن الموسيقى الضاجة بها، ومن بعدها الإنساني الذي رصده يوسا من دون مباشرة أو مبالغة أو تعقيد، فهذه الرواية لا يصلح لها إلا طريقة البناء الذي ولدته وولدت فيه.