هناك اعتقاد يلامس التأكيد، لدى كثيرين من متابعي التطورات التونسية، أن حزب النهضة الإسلامي برئاسة راشد الغنوشي سينجز تجربة في الانفتاح على الآخرين، وفي التعددية والتداول على السلطة وفي الديمقراطية، وربما أيضاً في علمانية الدولة والحفاظ على الحقوق التي حصلت عليها المرأة في عهد الرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة، وإن هي لم تتجاوز تجربة حزب العدالة والتنمية التركي بقيادة رجب طيب أردوغان فإنها ستكون بمقاساتها على الأقل.

Ad

ربما غير معروف للبعض أن حزب النهضة الإسلامي لم يولد في الحاضنة الإخوانية التقليدية، وأن انضمامه إلى الإخوان المسلمين أو تآخيه معهم قد جاء في وقت متأخر جداً، أي بعد خروج الغنوشي هروباً من تونس واستقراره في لندن كلاجئ سياسي، ومن هناك بدأ اتصالاته أولاً مع حسن الترابي في السودان، ولاحقاً مع التنظيم العالمي لهذه "الجماعة" ومع فروعها الأخرى ومع الشيخ يوسف القرضاوي بعد استقراره في الدوحة في قطر.

وهنا فإنه لابد من الإشارة إلى أن الخلفية السياسية للشيخ راشد الغنوشي قد أثرت على منهجه السياسي كله قبل وبعد تأسيس حزب النهضة الإسلامي، وحتى الآن فهو بدأ ناصرياً من خلال الاستماع إلى "صوت العرب" في نهايات خمسينيات وبدايات ستينيات القرن الماضي، إذ كانت أمواج هذه الإذاعة التي أرادها عبدالناصر دعاية لا دعوة تصل واضحة إلى قريته الواقعة في الجنوب التونسي على الحدود مع ليبيا، وحيث كان المذيع الشهير أحمد سعيد يُسوَّق ما كان يسمى الفكر الناصري في الوطن العربي كله.

قصد الغنوشي بعد إنهاء دراسته الثانوية القاهرة معتقداً أنه كناصري ستُفتح أمامه أبواب الجامعات المصرية، لكن لأن "بيروقراطية" الإدارات حالت دون ذلك فقد ذهب إلى دمشق وانضم إلى جامعتها العريقة والشهيرة، وهناك بادر وعلى الفور إلى الانتماء إلى حزب الاتحاد الاشتراكي (الناصري) بقيادة جمال الأتاسي، فأصبح خلال فترة قصيرة مسؤول فرعه في العاصمة السورية، كما أصبح أحد رموز الحركة الناصرية في سورية.

لقد اندلعت حرب يونيو بينما كان الغنوشي لايزال طالباً يتابع دراسته في جامعة دمشق، ولذلك ولأن خيبة أمله، مثله مثل أبناء ذلك الجيل مُدمَّرة وكبيرة، فقد قرر مغادرة بلاد الشام كلها متجهاً أولاً إلى ألمانيا (الغربية) لدراسة الفلسفة "الديكارتية"، ومنها انتقل إلى فرنسا حيث التقى بعض الإسلاميين الجهاديين الذين جاءوا من باكستان، وكان تأثره بهم كبيراً، ثم بعد ذلك انتقل إلى الجزائر للقاء الفيلسوف الإسلامي الكبير مالك بن نبي، الذي قرأ له كثيراً، وهناك جاءه خبر وفاة والدته، رحمها الله، فذهب إلى قريته التونسية الجنوبية، وفي طريق عودته إلى ألمانيا قرر خلال توقفه القصير في تونس العاصمة الذهاب لأداء الصلاة في جامع الزيتونة العريق، وهناك التقى الشيخ عبدالفتاح مورو فقرر البقاء للعمل معه على إنشاء حركة سياسية ذات توجه إسلامي، وهكذا فقد تغير مجرى حياته كله.

كان الغنوشي قد أُدخل السجن في عهد الحبيب بورقيبة، وكان قد صدر حكم عليه بالحبس سنوات طويلة، لكن تم الإفراج عنه في بدايات حكم زين العابدين بن علي التي شهدت بعض الانفراج السياسي، ولذلك ولأنني كنت التقيته في دمشق وبقيت متابعاً لأنشطته السياسية فقد كنت أول من زاره من غير أهله وأقاربه بعد خروجه من السجن في منزله في شارع قناة السويس في منطقة بن عروس في تونس العاصمة، وهناك وخلال جلسة طويلة تعرفت على كل التحولات التي طرأت على قناعاته السياسية، وعرفت منه أنه قرر مع إخوان له تأسيس حزب سياسي باسم حزب النهضة، وهنا فإنني أعتقد أن صفة "الإسلامي" قد جاءت متأخرة ربما بتأثير من حسن الترابي في السودان.

بعد خروجه من تونس سرّاً تحت ضغط المتابعات والملاحقات "البوليسية" أصبح الغنوشي لاجئاً سياسياً في لندن، وكانت فرصة لألتقي به مرات عدة ولأتعرف أكثر وأكثر على توجهاته، وحقيقة إن هذا الرجل الذي التقيته لاحقاً في عمان، خلال توقفه فيها وهو في طريقه إلى بغداد، يتمتع بثقافة سياسية مميزة يغلب عليها الطابع الفلسفي "الديكارتي"، ولديه قدرة هائلة على حوار الذين يختلف معهم، كما أنه ضد كل أشكال الشمولية وضد كل أشكال الاستبداد الديني، وفوق هذا فإن من يستمع إليه جيداً يشعر أن لديه تسامحاً ملموساً تجاه العلمانية والدولة المدنية وتجاه حقوق المرأة حتى وفقاً للمفاهيم البورقيبية، ولهذا فإنني أستطيع الرهان منذ الآن على أن فوز حزبه بالحصة الكبرى في الانتخابات التأسيسية الأخيرة سيكرر تجربة أردوغان في تركيا، هذا إن هو لم يتجاوزها لتصبح تجربته في تونس "مثابة" لكل ما سيترتب من أنظمة على هذا الربيع العربي المتواصل.