إن الحالة الاقتصادية المتردية التي ابتليت بها أغلب بلدان العالم الثري في عام 2011 لم تكن مجرد نتيجة لقوى اقتصادية مجردة، بل إنها كانت راجعة بشكل كبير إلى سياسات اتبعها، أو لم يتبعها، زعماء العالم، والواقع أن الإجماع اللافت للنظر الذي ساد أثناء المرحلة الأولى من الأزمة المالية التي بدأت في عام 2008، والذي بلغ ذروته في حزمة الإنقاذ التي بلغت قيمتها تريليون دولار واتفق عليها في قمة مجموعة العشرين G20 التي استضافتها لندن في أبريل 2009، تبدد منذ أمد بعيد، والآن تفشت المناحرات البيروقراطية والمفاهيم الخاطئة على نطاق واسع.

Ad

والأسوأ من كل هذا أن الخلافات السياسية تُدار بشكل أو آخر على طول خطوط وطنية، وتُعَد ألمانيا مركزاً للمحافظة المالية، في حين لاتزال الدول الأنغلوساكسونية منجذبة إلى إرث جون ماينارد كينز. والواقع أن هذا الانقسام يعمل على تعقيد الأمور إلى حد كبير، لأن التعاون الدولي الوثيق مطلوب بكل تأكيد لتصحيح الاختلال في التوازنات العالمية التي تمتد إلى جذور الأزمة.

والواقع أن الشكوك المحيطة بالديون السيادية في أوروبا كانت تدور حول اليورو إلى الحد الذي جعل البعض يتساءلون الآن ما إذا كانت العملة الموحدة قادرة على البقاء، ولكن اليورو كان منذ البداية عُملة غير مكتملة، فقد أسست "معاهدة ماستريخت" اتحاداً نقدياً بلا اتحاد سياسي (مصرفاً مركزياً مشتركا)، ولكن بلا خزانة مشتركة، وكان مهندسو اليورو على بيّنة من هذه النقيصة، ولكن بعض العيوب الأخرى في تصميمهم لم تتضح إلا بعد انهيار عام 2008.

فقد بُني اليورو على افتراض مفاده أن الأسواق قادرة على تصحيح تجاوزاتها بنفسها، وأن الاختلالات في التوازن لا تنشأ إلا في القطاع العام، ولكن ما حدث هو أن بعض أضخم الاختلالات في التوازن التي أدت إلى اندلاع الأزمة الحالية نشأت في القطاع الخاص، وكان إدخال اليورو إلى المعادلة مسؤولاً بشكل غير مباشر.

وبشكل خاص، اعتُبِرَت الديون السيادية في منطقة اليورو خالية من المجازفة: فما كان ينبغي على البنوك إلا أن تحتفظ بالقدر الأدنى من الاحتياطيات في مقابل سندات البلدان الأعضاء، والتي تَقَبَّلها البنك المركزي الأوروبي على قدم المساواة مع منحها فرصة الخصم، فكان بوسع البلدان الأعضاء أن تقترض بنفس سعر الفائدة الذي تقترض به ألمانيا، وكانت البنوك سعيدة بكسب بضعة قروش إضافية عن طريق تعبئة موازناتها بالديون الحكومية للاقتصادات الأكثر ضعفاً في منطقة اليورو. على سبيل المثال، تحتفظ البنوك الأوروبية بأكثر من تريليون يورو (1.3 تريليون دولار أميركي) من الديون الإسبانية، وأكثر من نصف هذا المبلغ تحتفظ به بنوك ألمانية وفرنسية.

وبدلاً من التقارب الذي نصت عليه "معاهدة ماستريخت"، كان التضييق الشديد للفوارق بين أسعار الفائدة سبباً في توليد نوع من التباين في الأداء الاقتصادي، فقد نشأت في بلدان مثل إسبانيا واليونان وأيرلندا فقاعات عقارية، فسجلت نمواً أسرع، فضلاً عن العجز التجاري مع بقية بلدان منطقة اليورو، في حين عملت ألمانيا- تحت وطأة تكاليف إعادة توحيد شطريها- على كبح جماح تكاليف اليد العاملة لديها، فأصبحت أكثر قدرة على المنافسة وتكديس فوائض تجارية مزمنة.

ثم انتُهِكَت قاعدة تقارب أسعار الفائدة عندما كشفت حكومة منتخبة حديثاً في اليونان أن العجز الذي جلبته الحكومة السابقة على نفسها كان أضخم كثيراً من المستوى الذي أعلنته، وكانت استجابة السلطات الأوروبية بطيئة، لأن وجهات نظر البلدان الأعضاء كانت متباينة تمام التباين.

والواقع أن ألمانيا، التي تضررت بسبب التضخم الجامح في عشرينيات القرن العشرين، وما ترتب على ذلك من عواقب سياسية مروعة، كانت تعارض أي خطة إنقاذ بكل شدة، وكانت ألمانيا فضلاً عن ذلك تقترب من دورة انتخابية، الأمر الذي أدى إلى زيادة موقفها صلابة. وبسبب إصرار قادة ألمانيا على تقاضي أسعار فائدة عقابية ممن يطلبون المساعدة منهم، تفاقمت الأزمة، واستمرت تكاليف الإنقاذ في النمو.

ومع تسبب عدم قدرة دول منطقة اليورو على طباعة نقود خاصة بها في تخفيض تقييمها فعلياً إلى مرتبة البلدان الأقل تقدماً والتي يتعين عليها أن تقترض بالعملة الأجنبية، فقد اتسعت أقساط المجازفة على قروضها تبعاً لذلك، وعلى هذا فقد لجأت السلطات، التي لم تر لهذه المشكلة أي حل، إلى المماطلة والتسويف، وهو نهج ناجح عادة، لأن حل المشاكل يصبح أكثر سهولة عندما تهدأ الأسواق. ولكن في حالتنا هذه، استمرت الأزمة في النمو والتفاقم، ولم تعد السلطات قادرة على المماطلة عندما استبعدت المحكمة الدستورية الألمانية قبول أي ضمانات إضافية خارج مرفق الاستقرار المالي الأوروبي من دون موافقة البرلمان الألماني.

وفي إطار قمة الاتحاد الأوروبي التي استضافتها بروكسل في التاسع من ديسمبر، وافقت بلدان منطقة اليورو على تأسيس اتحاد مالي أوثق، ولكن في لحظة اتخاذ هذا القرار، لم يعد كافياً لوضع الأزمة المالية تحت السيطرة.

والواقع أن التدابير التي اقترحها البنك المركزي الأوروبي قطعت شوطاً طويلاً نحو تخفيف مشاكل السيولة التي تواجهها البنوك، ولكن شيئاً لم يُفعَل لخفض أقساط المجازفة الضخمة المفروضة على سندات الحكومات، ولأن أقساط المجازفة ترتبط ارتباطاً وثيقاً بنقص رؤوس الأموال لدى البنوك، فإن أنصاف الحلول لن تكون كافية. وما لم يتم تطويق الديون السيادية المستحقة على بقية بلدان منطقة اليورو تباعاً، فإن عجز اليونان عن سداد ديونها قد يؤدي إلى انهيار النظام المالي العالمي.

وحتى لو لم يقع مثل هذا السيناريو المأساوي في عام 2012، فقد زرعت القمة بذور النزاعات في المستقبل؛ حول ظهور أوروبا "ذات السرعتين"، وحول المبدأ الاقتصادي الزائف الذي تسترشد به المعاهدة المالية المقترحة لمنطقة اليورو. فمن الواضح أن هذا المبدأ، الذي يقضي بفرض التقشف في فترة تتسم بارتفاع معدلات البطالة، يهدد بدفع منطقة اليورو إلى دوامة ضارية من الديون الانكماشية التي لن يكون الإفلات منها بالأمر اليسير على الإطلاق.

* جورج سوروس | George Soros ، رئيس مجلس إدارة صندوق سوروس ومؤسسات المجتمع المفتوح، ومؤلف كتاب «مأساة الاتحاد الأوروبي: التفسخ أو الانبعاث؟».

«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة».