الرأسمالية... ومستصغر الشرر
يجيء اعتراف رئيس المنتدى الاقتصادي العالمي كلاوس شواب أمام نخبة من قيادات العالم السياسية والمالية بأن "الرأسمالية بشكلها الراهن غير ملائمة لعالمنا المعاصر"، ليعكس حقيقة المأزق الذي تعانيه الرأسمالية، ويفسر لنا أسباب التساؤلات الصعبة التي يثيرها أرباب الرأسمالية وعشاقها أنفسهم قبل معارضيها. فمن داخل مقر انعقاد "نادي العظماء" على جبال الألب السويسرية الذي شارك فيه 2600 من أكثر الشخصيات ثراءً ونفوذا على مستوى العالم من ممثلي الشركات متعددة الجنسيات الكبرى والحكومات ومجموعات المال والاقتصاد المرموقة والعملاقة، والتي لا يقل دخلها- كحد أدنى لعضوية المنتدى- عن مليار دولار سنويا، ألقى البروفيسور شواب كلمته متوقعاً "مستقبلا بائسا تخسر في ظله الصفوة السياسية والاقتصادية ثقة الأجيال المستقبلية بشكل كامل"، ما لم ينتبه العالم إلى حقيقة الأزمة التي يعيشها.
وخارج قاعات المنتدى شديدة الحراسة التي تنعم بالدفء والفخامة وعلى بعد مئات الأمتار حسب المسموح به أمنياً، تمكنت حركة "احتلوا دافوس" من تنظيم احتجاجات وبناء "قرية من الكهوف" الثلجية والمخروطية الصغيرة والتقليدية التي لا تتسع سوى لفردين في بناء رمزي يعكس التفاوت الطبقي والاختلال الفادح في الدخول اللذين أثارا موجة سخط عارمة في أنحاء العالم، خصوصا في أعقاب أزمة 2008 المالية الطاحنة التي ضربت العديد من الاقتصادات الكبرى والرائدة. "سننظم بعض الأعمال البسيطة التي ربما ستثير بعض الإزعاج"... هكذا قال ديفيد روث، منظم الاحتجاج وزعيم الجناح الشبابي اليساري في الحزب السويسري الاشتراكي العتيق الذي يرجع تاريخه إلى عام 1888، ويحتل الحزب رغم تراجعه في السنوات الخمس الأخيرة، مكانة بارزة في الحكومة والبرلمان السويسريين كأكبر أحزاب المعارضة تمثيلاً وثاني أكبر كتلة برلمانية بـ45 مقعدا في البرلمان وتسعة مقاعد في مجلس الشورى. لا يمثل روث الحزب ولا يفضل الحديث باسمه هو فقط يتحدث باسم التيار الشبابي للجناح اليساري في الحزب، كما أن احتجاجه ليس الأول من نوعه ضد ممثلي تلك الشركات وصانعي السياسات الاقتصادية في العالم، فقد سبقته احتجاجات كثيرة ضد النظام الرأسمالي خلال الآونة الأخيرة لعل أبرزها حركة "احتلوا وول ستريت" في مدينة نيويورك الأميركية في سبتمبر 2011، وأخذت في الاتساع تدريجياً لتشمل بقية الولايات الأميركية كلها تقريبا، قبل أن تتحول إلى حركة عالمية في أكتوبر لتعم اليونان وإسبانيا والبرتغال وألمانيا وبريطانيا وإيطاليا والمكسيك وأستراليا والكثير من مدن العالم ودولها. لكن المشهد الحالي يدعونا إلى أن نقف ملياً كي نغربل التجربة الرأسمالية برمتها، ونمحص ما مرت به من مراحل، لتدارس تطوراتها وأزماتها على مر العقود الأربعة الأخيرة وصولاً إلى الأزمة الأخيرة والاحتجاجات الصاخبة المنددة بالرأسمالية، وآخرها احتجاجات "قرية الكهوف" الثلجية التقليدية التي تعمد المحتجون الذين لا تتجاوز أعداهم الخمسين من إعداد مطبخ تقليدي لإعداد بعض اللقيمات الساخنة على قطع من الجمر، لكن الخوف أن يتطاير منها "مستصغر الشرر" لتنال من ثوب الرأسمالية المتدلي من أعالي جبال الألب السويسرية!