طوق الحمام

نشر في 25-06-2011
آخر تحديث 25-06-2011 | 00:01
No Image Caption
 فوزية شويش السالم الشيء الوحيد الأكيد قي هذا الكتاب هو موقع الجثة: الزقاق الضيِّق المُسَمَّى أبو الرووس، برؤوسه المتعددة.

من يجرؤ على كتابة زقاقٍ كأبو الرووس غيري أنا، أبو الرووس نفسه، برؤوسه المتعددة. أنا الزقاق الصغير بطرف ميقات العمرة بآخر مكة، حيث يتطهّر المعتمرون لأداء طقس العمرة التي هي: غسل آثامِ عامٍ سابق للتهيؤ لعامٍ من الذنوب.

أنا أبو الرووس مَلِك التَنَفُّس، اللقب الذي استحققتُه من مهارتي في مواجهة المستحيل. فحيث إنه يُعتنى بتنويري قط فلقد تَعَلَّمتُ أن أجلس في العتم مُخَدَّرَاً وأسحبُ نفسًا عميقًا من الأنف (مُعَبَّأ بخمائر فضلاتٍ ونَزِّ بالوعاتٍ ونشاز أصواتٍ، كشأنِ روائحِ الحَوَاري المَنْسِيَّة) وأحبسه لدقائق قبل إطلاقه بتأنٍّ من الفم في هيئةِ إشاعاتٍ وخرافاتٍ ومحظورات أخنقُ بها سُكَّاني، الذين يبدأون في النبش عن مُسَكِّنَاتٍ في تاريخهم، لعجزهم عن احتمال واقعهم الكالح أو تفهّم العصر الذَّري الذي سيدوسهم.

ربما لم أكن زقاقًا طالعًا من عهدِ جُرْهُم والعماليق، لكنني أتأكد بتاريخٍ يَعبُرُ من سقوطِ مملكةٍ لقيامِ مملكةٍ، ومُحَمَّل بحروبٍ ودماء، استحققتُ عليه أن أُرْوَى من أكبر وديان الحجاز (النعمان) الذي هو في المُنْجِد اسمٌ مِنْ أسماء الـ(دم)، أو قناعٌ من أقنعته.

اسم أبو الرووس لا بأس به، وربما لا أحسد زقاقًا كما أحسدُ زقاق (المِرْفَق) والذي يُعتقد أن به دكان أبي بكر الصديق كان يبيع فيه الخَزَّ وفيه داره، يُقابل هذه الدار جدارٌ فيه حجر يمسّه الناس يقال إنه يُسلِّم على النبي صلَّى الله عليه وسَلَّم كلما مُسَّ. ولعلَّه الحجر الذي عناه الرسول بقوله: (إني لأعرف حجرًا بمكة كان يُسَلِّم عليَّ ليالي بُعثت.) ويُقَابلُ هذا الحَجَرَ على يسارِ المُستَقْبِلِ صفحةُ حَجَرٍ مَبني في الجدار في وسطه حفرة مثل محل المِرْفَق، يزوره العوام لاعتقادهم أن النبي عليه السلام اتكأ عليه فغاص مرفقه الشريف في ذلك الحجر، وهو يُكَلِّم الحجر الذي أمامه على شماله. ويقال إن أهل مكة إذا أصابهم عقمٌ يمشون من دار خديجة لهذا الحجر، فيُصيبهم الخصب وتكثر ذُرِّيتهم. نعم أريد أن أكون زقاقًا بمُخَيِّلةٍ سِحريَّة تخترعُ للجدران ألسنةً وتُسلِّم وتتحاور مع المارَّة وتستجيب للمساتهم. ربما لا أستطيع منافسة أزقة بتاريخ أسطوري كتلك، لكنني على الأقل أتفوَّق على أزقة كثيرة، مثل زقاق (عانقني) الرقيع الذي لا يسمح بمرور جسدين إلا عناقًا، وكل حركةٍ فيه تستحق الرجم. ولا أنا (درب الجنائز) الموشوم بالحزن ولا يُعْبَرُ إلا مَرَّةً واحدةً. ولا أنا (بدرب المهراس) الذي يستحق الرؤوس الهَشَّة التي أُشَجِّع تَكَاثُرَها بحُريَّةٍ في زواياي. وأترفَّع عن أن أكون (درب المساكين) الذي يجتمع على نيرانه مُتَسوِّلو اللقمة والخِرْقَة والدراويش منشدو المدائح المُسْتَجْدين لحقوقهم، ولا أنا درب (الفحم) أو (الحُمرة) الذي يفخر بشجرة خروب وحيدة تطرح ثمرًا دمويًا.

أنا(أبو الرووس) أتبرأ من كل ذلك.

أحيانًا أجلس للصلاة- نعم، لا تندهشوا، فكُلُّ شيءٍ يُصَلِّي- وأحيانًا أُغمضُ عيني وأنجرفُ للتفكير تحت تأثير التريبتيزول(الذي يصفوه بجرعاتٍ كبيرةٍ للاكتئاب وبجرعاتٍ صغيرةٍ للتبوُّل اللاإرادي في الفراش، وأنا أمسكُ بكبسولة 50 ملغم، وأفتحها لأجد تلك الرميلات الصغيرة، أُقَسِّمها لخمسٍ، في ليلة أُضَاعِفُ الجُرعةَ وفي أخرى أُقَلِّصها حين تبدأ جدران أحشائي بالتآكل)، فأكفُّ وأبدأ بالتبول اللاإرادي...

أنا أبو الرووس: اسمٌ عَلَمٌ على زقاقٍ مجهول لكل المعلومين الذين يملكون القدرة على تغيير مصيري، وجعلي منظورًا على خارطة مكة.

الثوب

(أبو الرووس)!! لماذا حملتُ هذا الإسم المُتعدِّد والذي يوحي بمُنَاطَحَة؟! فلقد حَدَثَ وفي زمنٍ قبلَ ظهوري للحياة أن وجَدوا في هذه البقعة من أطرافِ مِيِقَاتِ العُمْرَة أربعةَ رؤوسٍ مدفونة لأربعة رجالٍ. انتبهوا فأنا لا أُبَاشِر الآن جُثَّةَ المرأة التي وَقَعَتْ من طوق هذه الرواية وأخرجتْني من صمتي، وإنما أُورِدُ هنا حكايةَ رؤوسِ الرجال الأربعة، التي قُطِعَتْ زَمَنَ شريفٍ ما: الشريف عون ربما. أو أحد الحُكَّام الأتراك. الرجال الأربعة الذين استغلَّوا الاحتفالَ بموكبِ المَحْمَل المصري القادم من مدينة (تَنيس) بكسوة الكعبة من حريرٍ أخضر بالرسم الأحمر أعلى الباب، وانتهزوا خروجَ الشريف وعسكره لاستقباله مع أعيان مكة، فسرقوا الكسوةَ القديمةَ، التي كَوَّمَها الأغواتُ على بابِ الفَتح من جهةِ المَرْوَة، بانتظار أن يحملها آلُ شيبة لسوق الصَاغة، لإذابة الأسماء العظمى المنقوشة بالذَّهَب والفِضَّة، وبيعها للاعتياش على أثمانها، إذ كانت تلك مِنْحة مكة الحولية لآل شيبة! ولقد فَرَّ الأربعةُ بالكسوة القديمة على ظَهْرِ بعيرٍ لطريق العمرة، حيث أدركَهم حرسُ الشريف، وكانوا قد نصبوا تلك الكسوة خيمة، وأقاموا تحتها واستضافوا أصحاب العُسرة، والمجذومين، والمجانين وأصحاب العاهات، الذين كانوا يرقدون تحتها ويخرجون كما ولدتهم أُمّهاتهم مُتَخَفِّفين من العاهات والأمراض والهموم وأحيانًا من أجسادهم البشرية! ولقد كُتِمَ خبرُ السرقة والكرامات حتى لا تشيع البدعة ويحتذيها الطامعون، وأُشيع حينها أن الأربعة قد دخلو مكة مُتَخَفِّين بثياب حُجَّاجٍ كعادةِ الرَّحَّالة الغربيين والخارجين عن المِلَّة: فمنهم اليهودي والنصراني والمُدَّعِي النبوَّة، وآخرهم من عَبَدَة النار. وأُجْبِرَ قاضي مكة على إصدارِ حُكْمٍ سريعٍ عليهم بالشِّرْك، أُبِيحَتْ معه دماؤهم، وضُربت رؤوسهم في ليلٍ وأُلقي بأجسادهم ببئر(يَاخُور) حيث تأوي السيولُ بمُخَلَّفَات مكة، ورُفِعَتْ رؤوسهم على حُزْمَةِ رماحٍ كشَوَاهِد ببقعةِ القَبْضِ عليهم. الحبكة تقتضي أن أَذْكُرَ هنا المرأة التي كانت تأتي حافيةً قاطعةً الطريقَ من مكة على قدميها، لتجلس تحت تلك الرؤوس تندبها بالأشعار والمجَسَّات وتلاوة سورة المُلْكِ أحيانًا، وقيل إنها كانت عاشقةً لهؤلاء الرجال الأربعة جميعًا، لتظهر كل صباح بقدمين محترقتين برمل مكة، وتجلس لتُلاغي الرؤوس وتدفعها للتصارع على وِدِّها... ثمّ تسري مع الليل راجعة أدراجها، حتى لا تلكوها الألسن! من مناغاة تلك المرأة الحاسرة قام الزقاق، ولا بُدَّ من الاعتراف بأنني ماءُ رغبةٍ بحوضِ امرأةٍ أو بقروح قلبها وكَفَّيها، رغم أن المرأة لم تذرف دمعة واحدة على تلك الرؤوس التي كانت الغربان تُشاجرها بلا انقطاعٍ لخطفِ لُقمَةٍ من شحم عيونها... والمرأةُ لا تُجيب إلا بالندب والنفخ، حتى انشقَّ الزقاقُ: بوسعي القول الآن إن هذا الزقاق شَقَّتْه العواطفُ، فأوّله لوعةٌ(على مسجد رضوى) وأمواج المعتمرين، وآخره نشوةٌ بدكاكين الطَّرَبِ، وأوسطه تاريخٌ يدفنُ رأسَه في الرمل يُرَجِّع عزيف الجن ويتلاشى، لتظلّ أطرافُه مَدَاخِل مُوَارَبَة للحزن، ونوافذه مُسَمَّرَة للوَجْدِ، أما أكبر البوابات فتلك التي تَتَوَسَّع في السِّرِّ: بوابة الشغف والأشواق، المُتمثلة في هذه الاستراحة والبستان، التي أنشأها أول الأشراف أو آخرهم(الشريف عون أو حسين لا فرق) وصارت أشبه ما تكون بـ غَيْضَةٍ بِقَيْعَةٍ يحسبها الظمآنُ ماءً، تجذبُ طُلاّب الكرامات والعَسكر لحماية طريق المعتمرين من طفرات الصعاليك المُعَاقِرين للصمغ أو العَرَق المُصَنَّع في أحواشه المهجورة والأقبية.

ما قبل الجثة

قلت إن هذه الحكاية تبدأ بجثّة، ولأنها حكايتي فإنني أختار أن نُهمل الجثة، فلن نعبأ بالأموات هنا بقدر ما سنُطارد الأحياء، فلقد واظبتُ أُخفي حبكات العشق والانتقام جيدًا وراء الأبواب، حتى فَضَحَتْنا هذه الجثة. وحين أُورِدُ ذِكْرَ عَزَّة أو أُفسِحَ مجالاً لفضح عائشة لغرامياتها، فلستُ أتساهل وأحصرُ فيهما هويَّةَ تلك الجثة التي تصلح أن تَتَرَشَّح لها كل بنات أبو الرووس. يجب أن أكون دقيقًا فلا أخلط الأسماءَ والأطراف والمسمَّيات وأتَعَجَّل بتوجيه الاتهام لقاتلٍ بعينه، ليس قبل أن نُفَصِّل الحكاية، ونوَثِّقها بما جَرَى في عيِّنَةِ الرؤوس الأربعة التي تراوحت بينها الشُّبهة، الرؤوس المشمولة بفحم، بهذا(الحجاب) بيني وبينها:

فهناك يوسف الموسوس بالتاريخ، والذي وَقَّعَ العميدُ بالأخضر وخَتَمَتْ جامعةُ أم القُرى بالأزرق غير القابل للتزوير على وثيقة البكالوريوس التي يحملها في التاريخ والقائمة على بحثٍ مُخْتَصَرٍ عن المنائر التاريخية على جبال مكة. ولقد كان هو منارة العشق بأبو الرووس. يُؤذِّنُ لعشقين: عَزَّة، ومكة. فلم  يهبط من سطحهم، ودخل في هذيان حتى ضَمَّهما في واحد.

وهناك معَاذ الذي تَدَرَّبَ ليخلف أبيه في إمامة المسجد- بعد عمرٍ طويلٍ- فلَجَأ إلى سرقةِ الوقت للعمل صبيًا باستديو مُؤَقَّت. وخليل بشهادة طيرانه الموقوفة وخطابات رفض التوظيف من شركات الطيران الخاصة، وهناك تيس الأغوات ربيب العَشِّي الطبَّاخ والذي يلقط الأطرافَ البَشَريَّة ليُمارس معها شذوذه... كل هؤلاء يصلحون لأن تُرْفَعَ رؤوسهم على رماحٍ، كما يؤكد الشيخ مُزَاحِم الذي جاء مُلاحِقًا حَمْلَةَ ابن سعود 1926 بعد الاتفاق على تسليم الملك علي بن الحسين مدينةَ جدَّة بعد حصارٍ طويل واستسلام مكة بلا حرب. الشيخ مُزاحِم ابن الخامسة عشرة الذي تَيَتَّمَ في موقعة تَرَبَة التي قادت أخبارُ مَقْتَلَتها العظيمة الحجازَ للتسليم من دون قتال، وأطال المقام بها حتى شَهِدَ أكوامَ أظافرِ أهله القتلى تحملها الريحُ وتُفضِّضُ تشكيلات الكثبان، يحاولون الآن إعابة تاريخه وشيخوخته بتلك الفِضَّة التي جَمَعَها قبل أن يَفِرَّ تاركًا بحجمها ثقوبًا في ذيلِ نَسَبِهِ الذي دَفَنَه معها بأرض حانوته، وتَفَرَّغ يبيع فيه «الأرزاق»، كما يسمّي الأهالي أكياس الطحين والأرز والقمح والسُّكَّر والشاي. الشيخ مُزَاحِم باختصار تاجرُ أرزاقٍ، ومُصابٌ بإمساكٍ مُزمِن، لا تُريحه إلا تحميلة السَّبَّابة بزيت اللوز، الأمر الذي يتحرَّجُ منه في رمضان فلا يُرْصَدُ هلالُ شوال إلا ويكون قد تَقَرَّح شَرْجُه وتَحَجَّرتْ أمعاؤه، حتى صار هَمُّه البحثَ عن فتوى (بأن زيت اللوز في فتحة الشرج لا يُفَطِّر أو يَجْرَح صيام الصائم!).

الجثة

هكذا كان معاذ المُصَوِّر المُتَدَرِّب يقفز بين سطحين حين وَقَفَ مشلولاً في الهواء، مسلوبًا ينظر إلى الأسفل. عميقًا في الشقِّ بين البيتين لَمَحَ الجثة، في موتتها ترقدُ المرأةُ لوحةً تعرض عُريها البديع: تُرَبِّعُ ساقًا وتبسط أخرى، وفي لمحةٍ تكاثرت العيون على دموية المتبرعم بقلب الأَجَمَة.

«يا لكمال الموت في هذه الصورة!» هتف معاذ ملتقطًا صورة.

سَكَتَ عودٌ بآخر الزقاق ودَرْبَكَتْ طبلةٌ بيدِ هاوٍ غشيم، حين ظهرت امرأةٌ كبطريق في أول الزقاق تَخفِقُ عباءتُها عن ثوبِ عزائها الأبيض، راحت وجاءت حول الجثة:

«خافوا ربكم استروا عورةَ القتيلة». كرَّرت كوثر زوجة النزَّاح، أم المُهَاجِر أحمد.

تدافع الجمعُ حولَ حَدْبَتِها التي تحجب عنهم القتيلة.

شيخٌ بلحيةٍ برتقالية اقتحم بعُكَّازِه المشهدَ، وسقطت عينُه بمائها الأزرق حَول الحلمتين تَشُقَّان كل لِضِفَّةٍ، يَشلُّه هاجسٌ وحيد:

«أُعيذُ ابنتي عَزَّة أن يكون لها جسدٌ كهذا لا يستحي حتى في موته».

ولكي يمنع الشيخُ مُزَاحِم القتيلةَ من تَلَبُّس ابنته كرَّرَ لنفسه: «عَزَّة بَازِيِّة، البارحة حين صَفَعْتُها نَهَشَتْني عينُها. عَزَّة لا تحيا بمثل هذه النوابض ولا تموت بمثل هذا التهشيم للوجه! اللهم إني أسألُكَ ميتة سويَّة ومَرَدَّاً غير مُخْزٍ وبعثًا بأحواض الحور العِين».

«زُمْ زُم!» من وراء النوافذ تمتمت النساءُ ونفخت الأمهاتُ على الجثة، حتى لا تتوسَّع بحرًا من فتنةٍ تَلحق ببناتِ أبو الرووس.

ضابط وسيارتا شرطة وعربة إسعاف انبثقوا من الهذيان حول الجثة على مدخلي الضيق أنا أبو الرووس. كلُّ الأصوات سَكَتَتْ حين احتاجت الأوراقُ الرسمية إلى اسم للقتيلة.

back to top