هل يقف صندوق النقد الدولي في طريق أوروبا؟

نشر في 06-09-2011
آخر تحديث 06-09-2011 | 00:01
 بروجيكت سنديكيت الآن بعد أن اعترف الصندوق صراحة بثغرات رأس المال التي تعيب مواقف العديد من البنوك الأوروبية، يتعين عليه أن يبدأ بالضغط بقوة من أجل التوصل إلى حل شامل وجدير بالثقة لأزمة الديون في منطقة اليورو، وهو الحل الذي لابد أن يشتمل إما على الانفصال الجزئي عن منطقة اليورو وإما الإصلاح الدستوري الجوهري، وإن مستقبل أوروبا، ناهيك عن مستقبل صندوق النقد الدولي، يعتمد على هذا.

مع استمرار أزمة منطقة اليورو في التفاقم، فقد يقر صندوق النقد الدولي بالحاجة إلى إعادة تقييم نهجه في التعامل مع الأزمة، وتشكل الدعوة التي أطلقتها المديرة الإدارية الجديدة لصندوق النقد الدولي كريستين لاغارد أخيراً لإعادة التمويل القسري للنظام المصرفي المفلس في أوروبا بداية جيدة، والواقع أن ردة الفعل الغاضبة من جانب المسؤولين الأوروبيين- الذين أصروا على أن البنوك على خير ما يرام وأنها لا تحتاج إلا إلى دعم السيولة- لابد أن تخدم كسبب لتعزيز إصرار الصندوق على التحلي بموقف معقول في التعامل مع أوروبا.

حتى وقتنا هذا، كان الصندوق حريصاً على دعم كل مبادرة أوروبية جديدة لإنقاذ البلدان المثقلة بالديون الواقعة على الحافة الخارجية لمنطقة اليورو، فالتزم بتقديم أكثر من مئة مليار دولار لليونان والبرتغال وإيرلندا حتى الآن، ولكن من المؤسف أن صندوق النقد الدولي لا يجازف الآن بأموال بلدانه الأعضاء فحسب، بل قد يجازف في النهاية بمصداقيته المؤسسية.

قبل عام واحد فقط، وأثناء الاجتماع السنوي لصندوق النقد الدولي في واشنطن، كان كبار المسؤولين يخبرون كل من يرغب في الاستماع بأن حالة الذعر من الديون السيادية الأوروبية ليست أكثر من زوبعة في فنجان، وبتقديم عروض توضيحية بارعة بالاستعانة ببرنامج باور بوينت وتحمل عناوين مثل "التخلف عن السداد في الاقتصادات المتقدمة اليوم: غير ضروري، وغير مرغوب، وغير مرجح"، حاول الصندوق إقناع المستثمرين بأن ديون منطقة اليورو كانت صلبة كالصخر.

حتى أن صندوق النقد الدولي زعم فيما يتصل باليونان أن ديناميكية الدين لم تكن تشكل مصدراً للقلق البالغ، وذلك بفضل النمو المتوقع والإصلاحات، ناهيك عن الخلل الواضح في منطق الصندوق، أو على وجه التحديد أن البلدان مثل اليونان والبرتغال تواجه مخاطر خاصة بالسياسات والتنفيذ أشبه بتلك التي تواجهها الأسواق الناشئة وليس الاقتصادات المتقدمة حقاً مثل ألمانيا والولايات المتحدة.

ربما كان بوسع المرء أن يخمن مع تدهور الموقف أن صندوق النقد الدولي سوف يرهن معتقداته بتحركات السوق، وسوف يتبنى نبرة أكثر حذرا، ولكن ما حدث بدلاً من ذلك هو أن أحد كبار المسؤولين أعلن في الاجتماع التحضيري لصندوق النقد الدولي في إبريل 2011 أن الصندوق يعتبر الآن إسبانيا المتعثرة دولة تنتمي إلى قلب منطقة اليورو مثل ألمانيا، وليست دولة واقعة على محيط المنطقة الخارجي مثل اليونان أو البرتغال أو أيرلندا.

من الواضح أن ذلك الإعلان كان من المفترض أن يدعو المستثمرين إلى الخروج باستنتاج مفاده أنهم لأغراض عملية لابد أن يفكروا في الديون الإسبانية والألمانية باعتبارها متطابقة، وبهذا نعود إلى الغطرسة القديمة التي اتسمت بها منطقة اليورو، حتى أن رد فعلي الساخر كان: "يا للهول! الآن لابد أن صندوق النقد الدولي يتصور أن بعض بلدان منطقة اليورو الأساسية أصبحت عُرضة لخطر العجز عن سداد ديونها".

بفضل خدمتي ككبير لخبراء الاقتصاد لدى صندوق النقد الدولي أثناء الفترة 2001-2003، فأنا على دراية باضطرار الصندوق إلى السير على حبل مشدود بين بناء ثقة المستثمرين وزعزعة شعور صناع القرار السياسي بالرضا عن الذات، ولكن التحلي بالحذر في خضم الأزمة أمر يختلف عن قذف الناس بالهراء.

كان رجل الاقتصاد الراحل جورج ستيغلر من مدرسة شيكاغو يصف الدور الذي يلعبه صندوق النقد الدولي في أوروبا باعتباره مرآة عاكسة "للأسر التنظيمي" الحاد، أو نستطيع أن نقول بتعبير أكثر بساطة إن أوروبا والولايات المتحدة تتحكمان بقدر أعظم مما ينبغي لهما من القوة في صندوق النقد الدولي، وأن تفكيرهما ميال إلى فرض الهيمنة، وإن أكثر ما قد يحتاج إليه زعماء أوروبا من صندوق النقد الدولي يتلخص في القروض الميسرة والدعم الخطابي القوي، ولكن ما تحتاج إليه أوروبا حقاً هو ذلك النوع من التقييم الأمين والحب الصارم الذي عمل صندوق النقد الدولي تقليدياً على تقديمه لعملاء آخرين أقل نفوذاً على الصعيد السياسي.

إن البقعة العمياء التي تميز صندوق النقد الدولي في التعامل مع أوروبا حتى وقتنا هذا لا ترجع إلا جزئياً إلى قوة التصويت التي تتمتع بها أوروبا، فهي نابعة أيضاً من عقلية "نحن" و"هم" التي تتخلل على نحو مماثل البحوث التي تجريها المؤسسات الاستثمارية الكبرى في "وول ستريت"، وإن المحللين الذين عملوا طيلة حياتهم مع الاقتصادات المتقدمة فقط تعلموا وضع رهاناتهم على الأمور التي تسير على ما يرام، وذلك لأن الأمور طيلة العقدين اللذين سبقاً الأزمة كانت تسير على ما يرام غالبا، أو على خير ما يرام في واقع الأمر. ولهذا السبب يصر العديد من الناس على الاستمرار في افتراض مفاده أن التعافي السريع الطبيعي أصبح قاب قوسين أو أدنى، ولكن كان من الواجب أن تذكر الأزمة المالية الجميع بأن التمييز بين الاقتصادات المتقدمة والأسواق الناشئة لا يستند إلى خط أحمر ساطع.

في خطاب ألقاه أخيراً في جاكسون هول بولاية وايومنغ، اشتكى رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأميركي بن برنانكي بقوة من أن الشلل السياسي ربما يشكل الآن العائق الرئيس أمام التعافي، ولكن المحللين المعتادين على دراسة الأسواق الناشئة يدركون أن مثل هذا الشلل يصبح من الصعب للغاية تفاديه في أعقاب أي أزمة مالية.

وبدلاً من تصديق تأكيدات صناع القرار السياسي بخنوع، تعلم الباحثون في الأسواق الناشئة عدم الثقة بالوعود الرسمية، ففي كثير من الأحيان، ترتكب كل الأخطاء التي يمكن ارتكابها.

ويتعين على صندوق النقد الدولي أن يستعين بقدر أعظم من هذا النوع من التشكك في تقييمه لديناميكيات الدين في منطقة اليورو، بدلاً من السعي على نحو لا ينقطع إلى تقديم افتراضات مفتعلة من شأنها أن تجعل الدين يبدو قابلاً للاستدامة، وكل من ينظر عن كثب إلى الخيارات المعقدة المتاحة أمام أوروبا فيما يتصل بإخراج نفسها من مأزق الديون فسوف يدرك لا محالة أن القيود السياسية ستشكل عقبة كبيرة أياً كان المسار الذي تسلكه أوروبا.

وحتى خارج أوروبا، كان صندوق النقد الدولي كثيراً ما يمنح قدراً أعظم مما ينبغي من المصداقية للحكومات القائمة، بدلاً من التركيز على المصالح الأبعد أمداً للبلاد وشعوبها، والواقع أن صندوق النقد الدولي لا يسدي شعوب أوروبا صنيعاً عندما يتقاعس عن الضغط بقوة من أجل التوصل إلى حل أكثر واقعية، بما في ذلك شطب ديون البلدان الواقعة على حافة منطقة اليورو وإعادة تخصيص ضمانات البلدان الأساسية إلى أماكن أخرى.

والآن بعد أن اعترف الصندوق صراحة بثغرات رأس المال التي تعيب مواقف العديد من البنوك الأوروبية، يتعين عليه أن يبدأ بالضغط بقوة من أجل التوصل إلى حل شامل وجدير بالثقة لأزمة الديون في منطقة اليورو، وهو الحل الذي لابد أن يشتمل إما على الانفصال الجزئي عن منطقة اليورو وإما الإصلاح الدستوري الجوهري، وإن مستقبل أوروبا، ناهيك عن مستقبل صندوق النقد الدولي، يعتمد على هذا.

* كينيث روغوف | Kenneth Rogoff ، أستاذ الاقتصاد والسياسة العامة بجامعة هارفارد، وكان يشغل منصب كبير خبراء الاقتصاد لدى صندوق النقد الدولي سابقا.

«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»

back to top