-1-

Ad

أصبحت الثورة العربية، التي تجتاح العالم العربي من أقصاه إلى أقصاه، والتي تنذر باجتياح مناطق أخرى من العالم العربي، من أهم الموضوعات السياسية والتاريخية والاجتماعية وكذلك الاقتصادية التي تشغل بال العالم، خصوصاً أولئك العاملين في المجال السياسي من الزعماء، والقادة، وصُنَّاع القرار في هذا العالم.

وسبب هذا الانشغال والانهماك، عوامل مختلفة، منها:

1- أهمية العالم العربي كمنتج للطاقة الحيوية للصناعة، والاقتصاد الغربي. وضمان وجود مصادر هذه الطاقة في أيدي أنظمة سياسية حرة، وعاقلة، ومستقرة.

2- أهمية العالم العربي في لجم ومحاربة الإرهاب الدموي، الذي يخرج من العالم العربي بالدرجة الأولى، ويهدد الاستقرار في الغرب، وزيادة الميزانية السنوية لمكافحة الإرهاب، مما يُرهق الخزانة الغربية، ويُحرم الغرب من الاستمرار في التنمية الصحية والتعليمية المهمة.

3- أهمية العالم العربي، كممر بحري وجوي للتجارة بين الشرق الأقصى والغرب، وسيلعب العالم العربي بعد استقراره السياسي، في إتاحة الفرصة أمام العولمة الاقتصادية والاجتماعية، لكي تنتشر وتُرسي قواعدها المتينة في العالم العربي، والعالم الثالث عموماً.

4- أهمية العالم العربي، كمركز رئيس للأديان السماوية الثلاثة الرئيسة في التاريخ البشري، فقدرة العالم العربي على ترشيد مبادئ هذه الأديان، وتشجيع ودفع الحوار بينها لتكوين قيم المحبة، والتسامح، والإخاء، من الأهداف التي يسعى الغرب إلى تحقيقها، لكي يصبح العالم قرية آمنة، وساكنة، ومنتجة، بسلام تام.

-2-

رسالة المحبة، وضرورة االتسامح، والمصالحة، التي أطلقها الزعيم السياسي الوطني نيلسون مانديلا، ووجهها إلى الثوار العرب، تنطلق من كل ما قلناه الآن، وهذه الرسالة، لم تكن هي الوحيدة والجديدة، التي أطلقها نيلسون مانديلا. فقد سبق مانديلا المفكر التونسي العفيف الأخضر، حين دعا إلى محاربة ما أطلق عليه «حزب الانتقام»، الذي ظهر واضحاً في كل من تونس، ومصر.

ففي مصر مثلاً، انتقلت مصر من حكم «الحزب الوطني» السابق، إلى حكم «حزب الانتقام» اللاحق، وأصبح الشغل الشاغل للإعلام المصري- وربما لمعظم الإعلام العربي- هو: هل سيُحاكم مبارك، ونجلاه، أم لا؟

وهل سيُحكم عليهم بالإعدام- ربما أو على الأقل على الرئيس مبارك- أم لا، حيث إن قرار الحكم بالإعدام قد صدر في الشارع المصري، قبل التحقيق، وقبل المحاكمة؟ وربما سيكون في جيوب القضاة، الذين سيحاكِمون هذه العائلة، نتيجة لضغط الرأي العام المصري، والشارع المصري، والإعلام المصري، الذي ردد مثل هذه الأحكام صبحاً ومساءً. وهو ما يذكرنا بمحاكمة لويس السادس عشر 1793، حين جرت المحاكمة، في مثل هذه الأجواء المشحونة بالانتقام، والتشفّي، والثأر، ورفض المصالحة. ومصر ليست هي الدولة الأولى والأخيرة التي يجري فيها كل هذا، حيث يسعى «حزب الانتقام» من نقل الدولة إلى اللادولة، أو إلى «الصوملة»، وحيث لغم التوتر العالي بين الجهات، والاشتباك بين القرى، والاقتتال بين الأحياء لأقل شائعة، أو أتفه الأسباب، أو غيرها من مظاهر العنف، التي سيتكفل قانون المحاكاة بتعميمها. أما اللغم الآخر، الذي لا يقل خطراً، فهو لغم عجز الحكومة المؤقتة، أمام إصرار «حزب الانتقام» على إفلاس الاقتصاد الوطني، عن إعادة البلاد إلى العمل، وهي قضية حياة اقتصادها، أو موته، واستقرارها، وبقاؤها كدولة صاعدة. و»حزب الانتقام» هذا، فقد الصلة بالواقع المحلي والدولي، وهو مصمم على منع المصالحة الوطنية الشاملة، التي يعي أنها ستقطع الطريق على مساعيه لتحقيق القطيعة مع استمرارية الدولة والنتائج الكارثية المترتبة عليها، وسلاحه اليوم هو تحريض الشارع على رفض العودة إلى العمل، مستخدماً لهذه الغاية التظاهر المتواصل، لحماية الثورة من السرقة!

ويرى العفيف أن التحكم بالعنف، يتم من خلال احتكار الدولة وحدها للعنف المشروع، ومن خلال توسيع قاعدة النظام الاجتماعي بفتحه أمام النخب، والفئات، التي بقيت على هامشه، وكذلك من خلال توسيع حقوق المواطنة الكاملة للجميع.

-3-

وجاء اليوم الزعيم الإفريقي نيلسون مانديلا، وقال للثوار العرب المضمون ذاته، وركَّز على نقاط أساسية، منها:

1- كيف سنتعامل مع إرث الظلم لنقيم مكانه عدلا؟ فإقامة العدل أصعب بكثير من هدم الظلم، فالهدم فعل سلبي، والبناء فعل إيجابي. إن النظر إلى المستقبل والتعامل معه بواقعية، أهم بكثير من الوقوف عند تفاصيل الماضي المرير.

2- إن الجدل السياسي اليومي في مصر وتونس، يشير إلى أن معظم الوقت مهدر في سبِّ وشتم كل من كانت له صلة تعاون مع النظامين البائدين، وكأن الثورة لا يمكن أن تكتمل إلا بالتشفّي والإقصاء، كما يبدو لمانديلا أن الاتجاه العام، يميل إلى استثناء وتبكيت كل من كانت له صلة قريبة أو بعيدة بالأنظمة السابقة. وهذا أمر خاطئ في نظري، وتمنّى مانديلا على الثوار، أن يستحضروا الحديث النبوي الشريف: «اذهبوا فأنتم الطلقاء».

3- إن مرارات الظلم ماثلة، إلا أن استهداف هذا القطاع الواسع من المجتمع، قد يسبب للثورة متاعب خطيرة، فمؤيدو النظام السابق كانوا يسيطرون على المال العام، وعلى مفاصل الأمن، والدولة، وعلاقات البلد مع الخارج. فاستهدافهم قد يدفعهم إلى أن يكون إجهاض الثورة، وهو أهم هدف لهم في هذه المرحلة، التي تتميز عادة بالهشاشة الأمنية وغياب التوازن.

4- على «حزب الانتقام» في تونس ومصر، ولو قام في ليبيا، واليمن، وسورية، أن يتذكر- كما قال مانديلا- أن أتباع النظام السابق في النهاية مواطنون ينتمون إلى البلد. فاحتواؤهم ومسامحتهم هي أكبر هدية للبلاد في هذه المرحلة، ثم إنه لا يمكن جمعهم ورميهم في البحر أو تحييدهم نهائيا، ثم إن لهم الحق في التعبير عن أنفسهم، وهو حق ينبغي أن يكون احترامه من أبجديات ما بعد الثورة. وهذا ما قلناه في عدة مقالات سابقة، وكذلك قالته الكاتبة المصرية الشجاعة لميس جابر، في مقالات عدة، نشرتها في جريدة «المصري اليوم».

5- وأخيراً، وهذا هو المهم، على الثوار العرب، أن يرسلوا رسائل اطمئنان إلى المجتمع الملتف حول الدكتاتوريات «القروسطية» الأخرى، ألا خوف على مستقبلهم في ظل الديمقراطية والثورة، مما قد يجعل الكثير من «المنتفعين»، يميلون إلى التغيير، كما أن الثوار العرب على هذا النحو من العقلانية والرشد، قد يحدون من خوف وهلع الدكتاتوريات «القروسطية» الأخرى، مما ينتظرها.

وهذه العقلانية والواقعية السياسية، هي التي قادت «جنوب إفريقيا»، من احتمال حرب أهلية إلى بر الأمان.

فهل نتعظ؟!

* كاتب أردني