إذا كان السفر مفيدا لكل البشر، فإن فائدته للكاتب أهم وأكبر، فالمردود الذي يعود عليه أفضل مما يتحصل عليه أي شخص ذاهب للفرجة والسياحة، فالكاتب سيجني كل فوائد السياحة التي هي راحة واستجمام واطلاع ومعرفة واكتشافات وتسوق وعلاج وتغيير جو، بالإضافة إلى الجانب الأهم ألا وهو تغذية مصادر ينابيع الإبداع التي تمونه بالمواد المطلوبة، والسفر خير من يزوده بمعلومات متجددة.
الأمر المهم في السفر، هو تغير المكان والعادات وكسر النمط للسلوك الروتيني اليومي بالابتعاد عن العلاقات المرهقة والمستنزفة للطاقة والحيوية. الكتابة مهنة مرهقة للفكر ومتعبة للعضلات، لذا يأتي السفر كعلاج وراحة وصيانة للعقل والبدن. الإنسان بشكل عام محتاج الى عمل صيانة دورية لازمة لعقله وروحه وجسده، وذلك لإراحتها من وقت لآخر، ومن الغريب أننا نهتم بصيانة منازلنا وسياراتنا وأدواتنا الكهربائية والالكترونية، وننسى أن نعتني بأنفسنا التي هي الأهم في موضوع الحياة كله، ننسى أن نقوم بعمل الصيانة اللازمة لنا، فآخر ما نفكر فيه هو صيانة أرواحنا وأبداننا، وهي الفضلة المتبقية من بعد تقديم كل الخدمات إلى كل الذين يعزون علينا ونفضلهم حتى على ذواتنا. وإن كان السفر هو لتغير نمط السلوك والعادات الروتينية والانفلات من قيود الرسن الذي يثبتنا فيها طوال وجودنا في بلادنا، فإن السفر يجب أن يكون حرية لنا وفكاكا منها، وأن نسلك سلوكا آخر يمنحنا راحة أكبر للتمتع والتأمل والعيش في كل شيء جميل تراه العين وتدركه الحواس، لكن أينما أذهب أجد أن معظم سلوك العرب لا يتغير، فبدلا من الاستمتاع بما هم فيه، تجدهم يحملون مشاكلهم وحروبهم وكل الأخبار المزعجة والمتعبة معهم أينما كانوا وأينما حلوا، ترافقهم أخبار المشاكل والمصائب وآخر نتائج الحروب والانفجارات والحرائق والأسد والقذافي وعلي صالح، تلحق بهم في الغابات وعلى شواطئ البحار والحدائق والمنتزهات العامة. خسارة كبيرة، أنهم لا يعرفون كيف يعيشون متعتهم، وكيف يرون الدنيا بمنظار آخر؟ لا يعرفون كيف يقتنصون اللحظة التي لا تعوض بالعيش وامتصاص رحيقها إلى آخر نقطة فيها، أن يستلذوا بتأملها بإمعان وبارتشافها بكل الحواس اليقظة حتى تستقر في أعماق الوجدان والحواس والروح، فهذا التأمل هو الذي يقبض على إشعاع اللحظة الهاربة ويحبسها في ذاكرة تخلدها لتستعيدها في حنان عند التذكر والحاجة لها. أينما وُجد العرب، وُجد الضجيج وعراك الاحتداد في النقاشات والثرثرة التي لا تعرف لها سقفا ولا حدودا، تخوض في كل شؤون الشرق والغرب بلا توقف، سواء كانوا على دراية بها أو انها مجرد كلام بلا قواعد وبلا شهود. وعلى عكسهم تماما السياح الأجانب الذين يطول صمتهم خاصة في حضور الغابات والحدائق التي يجلسون فيها بصمت المتأمل المتعبد الذي يقدس لحظة الحياة الكونية هذه، يجلسون وهم منغمسون في تأمل كل شيء في الطبيعة التي تحوطهم، حفيف الأشجار في جلالها المهيب، وجريان النهر في دورته الأبدية، والزهور في نزقها الفرح والمشع والمبهج، والصمت الشفاف المبتلع لكل الفضاء الممتد فيه، والذي ينثر السلام والسكون على كل المخلوقات الموجودة فيه. الأجانب يعرفون كيف يمارسون فضيلة الصمت حين يكون الصمت نعمة وواحة للتأمل للقبض على اللحظة في عيشها وارتشافها حتى النخاع. العرب محرمون من قيمة إدراك هذه النعمة التي تنظف النفس من أدرانها، وتفرغ كل ما في الداخل من توترات الثرثرة العقيمة وتغذيه بكل جمال هذه التفاصيل التي لا تُدرك إلا في معايشة وحضور الذات في حضرة الصمت. الأجانب يملكون ثقافة الحياة في الطبيعة، أي ثقافة العيش في الغابات والحدائق التي تحتفي بالصمت وبالسكون والاستمتاع بتأمل تفاصيل التفاصيل التي لا تُرى ولا تُحصى ولا تُدرك إلا بالانزلاق في جلالة الصمت والسكينة. قد تكون ثقافة العيش في الحدائق ليست من طابعنا، لكننا نملك في المقابل صحراء تفرض علينا أيضا ثقافة التأمل والصمت ومعايشة كل تلك التفاصيل التي لا تُدرك إلا في حال معايشتها بفضيلة تأملها والتوحد بها، فالصحراء الحكيمة الصبورة كان من المفروض أن نتعلم منها فضيلتها البطيئة والمتخفية التي تحدث على أقل من مهلها في صحراء مشرعة على المدى المفتوح بلا حدود، نتعلم ثقافة عيشها بعمق ونسير في دوران تحولاتها متلفعين بسريانها وبالسكون.
توابل
ثقافة العيش في صمت
03-10-2011