فرناندو بيسوا شاعر متفرد غير عادي، لم تصل صورته الحقيقية إلى الناس بشكل واضح، فقد كانت حياته بعيدة عن الأضواء والإفصاح والوضوح، حاوطه الغموض طوال حياته وبعد مماته، ولم تنشر أعماله إلا بعد وفاته.

Ad

شخصيته نادرة غامضة غريبة الأطوار، منشقة على ذاتها في تعددات إنسانية مختلفة، تتحاور معه ويتحاور معها كأن وجودهما حقيقة مفروغ منها، فهو فرناندو بيسوا، وهو ألبرتو كاييرو، وريكاردو ريس، ألفارو دي كامبوس، برناندو سوارس، وغيرهم، فهو مفرد في صيغة جمع، وربما لو طال به الأمد لتعددت شخصياته أكثر وأكثر، كأنه يعيش في مسرحية أو فيلم كل أبطاله هم فرناندو بيسوا.

في الكتاب الصادر عن دار ورد والمعنون بـ"رسائل إلى الخطيبة"، الذي جُمعت فيه كل تلك الرسائل التي أرسلها إلى المرأة الوحيدة التي وجدت في تاريخ حياته أو عُرفت بشكل علني، وهي خطيبته أوفيليا كيروز، كشف لي عن طبيعة فرناندو بيسوا غير المتوقعة، فقد تكونت لدي صورة عنه تختلف تماما عما اكتشفته من روح الرسائل التي أرسلها إلى خطيبته، فصورته في رسائله عكست طبيعة مرحة مازحة عاشقة بتهور مفضوح، وهو على خلاف الانطباع الذي كونته عنه فقد كنت أظنه حزينا ورازحا تحت ثقل وصرامة العمل الجدي، بعيد تماما عن تهورات العشاق وتذللهم السافر إلى المحبوبات.

والغريب المضحك هو هذه الصفات والنعوت التي يطلقها على حبيبته مثل: فتاتي الصغيرة والعفريته، فتاتي الصغيرة الشريرة، فتاتي الصغيرة السيئة للغاية، حبيبة الولد الصغير، الحبيبة النغيرة، يا أفعى، الصغيرة المخيفة، الصغيرة الضارية، زلقوطتي... الخ، وهذه العناوين ليست إلا تحببا وتدليلا للحبيبة لا تعنيفا لها، هذا إلى جانب ذكره لشخصياته الأخرى التي يدخلها أيضا في إرسال السلام والأشواق إلى الحبيبة، مثل قوله: ال إيبيس وحتى الفارو دي كامبوس يحبان فتاتهما صغيرة القد جدا جدا.

كما انه كان يرسل لها قبلات طريفة متنوعة الأشكال في رسائله، مثل قوله: الكثير من القبلات، قبلات مليئة بالرغبة برؤيتك، قبلات وقبلات عديدة، قبلات من كل الأحجام، حصة من آلاف القبل، حشد من القبلات، ملايين القبلات، قبلة واحدة تدوم كل وقت العالم، قبلات هائلة، بوسات وفوقها بوسات.

الرسائل مليئة بتعبيرات مضحكة تكشف عن طابع وروح كوميدية مرحة غير متوقع وجودها لديه، ورغم كل هذه القبلات التي عرت خصوصيته فإن الحب لم يعمر أكثر من عام ثم انطفأ كأن لم يكن لمدة 9 أعوام لم يلتقيا فيها، ثم عاودا العلاقة فترة وجيزة بعدها انتهت بالكامل، ومات فرناندو عن عمر صغير لم يكن فيه مجال لوجود امرأة أخرى.

أضافت دار ورد جزءا ملحقا في الكتاب تحت اسم "كدت أفقد نرجسيتي"، وهو شعر لوداد بنموسي كتبت فيه مشاعر الخطيبة تجاه فرناندو بيسوا، وهي قصائد قصيرة متخيلة أظهرت فيها الخطيبة بصورة العاشقة المتيمة بفرناندو بيسوا، وهو الأمر الذي اختلف فيه معها، فهو الذي كان متيما بها، وهي لصغر سنها لم تفهم هذا الحب الكبير، وربما لم تحبه حبا حقيقيا وهو ما شعر به وكتبه في رسائله إليها، مثل: حاولي جهدك أن تحبيني بحق، لكي تشاركيني آلامي، وكتب أيضا: ولكنني سأطلب منك فقط أن تتظاهري بهذا الحب، أن تصطنعي بعض الاهتمام بي، سأكتب لحبيبتي الصغيرة لأقول لها على الأقل إنها سيئة جدا إلا في شيء واحد وهو فن التظاهر الذي هي بطلة فيه، وكتب في رسالة أخرى: ما الذي أعطيه لكي أصل إلى يقين بأنك تذوبين حبا بي فعلا، سيكون ذلك على الأقل عزاء، هل تحبينني لأنني أنا أم لأنني لست أنا؟ أم أنك لا تحبينني حقا حتى بدوني؟

وهي أيضا أشارت إلى شيء من هذا المعنى مثل تظاهرها بالغيرة كي تسره وتسعده لأنه كان يحب ذلك.

رسائل في منتهى الأهمية فقد كشفت وألقت الضوء على ذلك الوجه الآخر لشاعر ومفكر كبير مثل فرناندو بيسوا، حتى وإن كشفت وعرت كل ما حاول أن يخبئه ويداريه ويطويه عن أعين الآخرين الشغوفة والمتربصة بكل ما هو يضيء ويكشف عن أي شيء من ذاك الغموض الآسر.