مخاطر الانسحاب

نشر في 03-09-2011
آخر تحديث 03-09-2011 | 12:00
 بروجيكت سنديكيت إذا تركت الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلنطي «الناتو» أفغانستان لتتدبر أمورها بنفسها من دون العمل أولاً على إيجاد القدر الأدنى من الاستقرار الإقليمي، فمن شبه المؤكد أن يعود الخطر الإسلامي في وقت قصير نسبياً، وسيكون هذا الخطر أعظم مما كان عليه في التسعينيات.

إن الدخول في حرب قد يكون سهلاً؛ أما الخروج منها فهو الجزء الصعب من الأمر... تصدق هذه الحقيقة البديهية بشكل خاص على الولايات المتحدة اليوم، في وقت تناضل فيه للخروج من ثلاث حروب ـ اثنتان منها فُرضَتا عليها فرضا (الحرب في أفغانستان و»الحرب ضد الإرهاب»)، وورطتها الإدارة الأميركية التي أعمتها الإيديولوجية وغطرسة القوة في الحرب الثالثة (العراق).

ولا أمل للولايات المتحدة في تحقيق نصر عسكري في أفغانستان أو العراق؛ ولم يعد بوسعها أن تتحمل التكاليف الاقتصادية المترتبة على هاتين الحربين الاقتصادية إلا بالكاد، كما بدأ الدعم السياسي يتضاءل في الداخل. والآن بات لزاماً على الولايات المتحدة أن تنسحب، ولكن الثمن الذي قد تتكبده الولايات المتحدة وحلفاؤها في المنطقة والغرب بالكامل تظل كل احتمالاته مفتوحة.

فقد انسحبت آخر القوات الأميركية المقاتلة من العراق بالفعل. وعلى الرغم من اللجوء إلى كل الحيل المتاحة في جعبتها فإن القوى العسكرية الأعظم على مستوى العالم لم تتمكن إلا من خلق نوع من الاستقرار الداخلي الهش المؤقت في العراق. والواقع أن لا أحد اليوم يرفع لافتات «المهمة أنجزت». فلم يتم التوصل حتى يومنا هذا إلى حل حقيقي لأي من المشاكل السياسية الملحة الناجمة عن تدخل الولايات المتحدة- توزيع السلطة بين الشيعة والسُنّة، وبين الأكراد والعرب، وبين بغداد ومناطق العراق المختلفة.

ومازال العراق يشكل دولة من دون أمة مشتركة. فضلاً عن ذلك فإن العراق يهدد بالتحول إلى ساحة معركة للمصالح المتضاربة لجيرانه. والواقع أن الصراع بين القوة السُنّية الرائدة، المملكة العربية السعودية، وإيران الشيعية، للهيمنة على الخليج يهدد بتحويل العراق إلى ساحة للقتال مرة أخرى، بما في ذلك دولة أخرى من الحرب الأهلية. بل ومن المحتمل أن تنجر سورية وتركيا إلى مثل هذا الصراع. ولا يملك المرء إلا أن يتمنى ألا ينقلب الخواء الناجم عن الانسحاب الأميركي إلى أعمال عنف.

والوضع في أفغانستان أكثر تعقيدا. فأفغانستان عبارة عن صورة للعراق منعكسة في المرآة: فهي أمة بلا دولة. ولم تشكل النزعة الانفصالية هناك أي تهديد قط، ولكن منذ الغزو السوفياتي في عام 1979 كانت البلاد مسرحاً لحروب دارت حول صراعات عالمية وإقليمية.

وما نشهده في أفغانستان اليوم ليس مجرد حرب أهلية. ذلك أن المملكة العربية السعودية وإيران والهند وبلدان آسيا الوسطى، وباكستان بصورة خاصة، تخوض جميعها صراعاً من أجل فرض النفوذ هناك- كل عبر حلفائه من الأفغان.

في البداية كانت الحرب في أفغانستان حرب تحرير ضد الجيش الأحمر؛ ثم تحولت إلى حرب أهلية، ومنذ منتصف التسعينيات بدأت تندرج ضمن الصراع الهندي الباكستاني، حيث سعت باكستان إلى تحقيق عمق استراتيجي وفرض نفوذها الإقليمي من خلال حركة «طالبان»، التي تأسست في الأصل على يد جهاز الاستخبارات الباكستاني. ثم جاءت هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001 لكي تحول أفغانستان إلى مسرح لحرب عالمية. ولكن ما الذي قد يحدث الآن؟ هل يحدث ارتداد إلى الحرب الإقليمية والإرهاب الإسلامي؟ وهل تأخذ التطورات منعطفاً غير متوقع؟

إن الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلنطي (الناتو) واقعان في ورطة في أفغانستان. فلا يمكنهما البقاء في البلاد إلى أجل غير مسمى، ولا يمكنهما أن يرحلا فحسب.

إننا كثيراً ما ننسى أن الولايات المتحدة انسحبت في واقع الأمر من البلاد من قبل، في أعقاب انسحاب الاتحاد السوفياتي من أفغانستان في فبراير 1989. وبعد اثني عشر عاماً، وفي أعقاب الهجمات الإرهابية في عام 2001، كان لزاماً على الولايات المتحدة وحلفائها في الغرب أن يعودوا إلى محاربة «القاعدة» و»طالبان»، وهما التنظيمان اللذان حولا أفغانستان إلى تربة خصبة للإرهاب الإسلامي.

إن استيعاب دروس التسعينيات ليس بالأمر الصعب، وهي دروس أكثر أهمية من أن نتجاهلها. ولكن من الواضح رغم ذلك أن بعض المسؤولين في الغرب يحاولون تجاهلها. فالأوروبيون يفضلون الانسحاب عاجلاً وليس آجلا، ومن المرجح أن تحذو الولايات المتحدة حذوهم.

لقد بات من الواضح الآن حجم الخطأ العظيم الذي ارتكبته الولايات المتحدة حين تقاعست عن وضع استراتيجية سياسية لائقة في التعامل مع أفغانستان، واعتمدت بدلاً من ذلك على السبل العسكرية فحسب. والواقع أن استراتيجية «أفغنة» الصراع عن طريق تدريب قوات الأمن المحلية- والتي تم الاتفاق عليها في بداية هذا العام في مؤتمر استضافته لندن- تستند في الأساس إلى الجدول الزمني لانسحاب الولايات المتحدة والأوروبيين، وليس إلى الوضع داخل البلاد وفي المنطقة.

وإذا تركت الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلنطي «الناتو» أفغانستان لتتدبر أمورها بنفسها من دون العمل أولاً على إيجاد القدر الأدنى من الاستقرار الإقليمي، فمن شبه المؤكد أن يعود الخطر الإسلامي في وقت قصير نسبياً، وسيكون هذا الخطر أعظم مما كان عليه في التسعينيات. ولكن الاستقرار الإقليمي يتطلب في الأساس توضيح الدور الذي تلعبه باكستان في أفغانستان. ويتخفى نفس التحدي خلف صيغة «إدراج طالبان» في أي تسوية لمشكلة أفغانستان، وذلك لأن «طالبان» لا تملك القدرة على المساومة في غياب باكستان، كما أثبتت لنا الأحداث الأخيرة.

ان المفتاح إلى حل مشكلة أفغانستان يكمن في إسلام اباد وليس في كابول. وهذا يعني أن ريتشارد هولبروك، مبعوث الرئيس الأميركي باراك أوباما الخاص إلى أفغانستان وباكستان، أصبح الآن أكثر أهمية من القائد العسكري في أفغانستان، الجنرال ديفيد بتريوس. ولابد أن تستضيف عاصمة باكستان المفاوضات الرامية إلى التوصل إلى أي حل إقليمي حقيقي، ولا أحد يستطيع أن يزعم أن شروط النجاح ميئوس منها، رغم أنها تشتمل على القضية الأكثر تعقيداً- والتي نادراً ما تُذكَر- المتمثلة في العلاقات الهندية الباكستانية.

إن الغرب يريد الانسحاب من أفغانستان، وسيفعل ذلك بكل تأكيد، لكن المفارقة العجيبة هنا هي أن الانسحاب قد يقود الغرب إلى حروب إقليمية أعظم خطورة مع تقدم إيران نحو تحقيق هدفها المتمثل في تصنيع الأسلحة النووية. وإذا حدث هذا فإن خطط الانسحاب ستعاد إلى الرف- وربما لسنوات عديدة.

* يوشكا فيشر وزير خارجية ألمانيا الأسبق.

«بروجيكت سنديكيت/ معهد العلوم الإنسانية» بالاتفاق مع «الجريدة»

back to top