خرجت الحكومة الانتقالية التونسية عن صمتها وأعلنت في 8 يونيو أن الانتخابات ستجرى في 23 أكتوبر، واعتبر بيان الحكومة أن الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في تونس، فضلاً عن انعكاسات الأزمة في دولة ليبيا المجاورة، لا تسمح بحدوث إضرابات أو احتجاجات إضافية، وقد ساد شعور عام بالراحة، لأنه وضع حداً للتوتر الذي ساد في الساحة السياسية طوال أسبوعين تقريباً.
بعد ستة أشهر تقريباً على سقوط الرئيس التونسي السابق، يترافق الحديث الإيجابي عن تقدم البلد نحو إرساء الديمقراطية مع شكوك كثيرة حول تباطؤ هذه العملية. يسود خوف مثلاً من تأجيل انتخابات الجمعية الدستورية التأسيسية المقبلة لأجل غير مسمى، ومن أن يفوت البلد فرصة تاريخية حقيقية، فهل هذه الشكوك مبررة فعلاً؟ قرأتُ في الآونة الأخيرة تعليقاً على موقع إلكتروني إخباري مفاده أن التونسيين يجيدون ابتكار الأحداث ولكنهم لا يبرعون بالضرورة في إنجاز الأمور حتى النهاية، وذكر كاتب التعليق (المجهول الهوية) مثال القائد هنيبعل، فقال: "كان يجب أن يتوجه هنيبعل مباشرةً نحو روما بعد انتصاره في كاناي، وما كان يجب أن ينتظر. يجب إنجاز المهمة على أكمل وجه في جميع الأحوال".إنه تحليل مهم! على مر التاريخ، لطالما طرح التونسيون أفكاراً حسنة، فمن بين الدول العربية الأخرى، كانت تونس أول من ألغت العبودية في عام 1846، وأول من صاغت دستوراً في عام 1861، وأول من منعت تعدد الزوجات في عام 1956، وأول من منحت المرأة حق التصويت في عام 1957، وأول من أطاحت سلمياً بحاكمها الدكتاتوري في عام 2011، ما مهّد الطريق أمام الأحداث التي نسميها اليوم "ربيع العرب". لكن على الرغم من هذه الإصلاحات العظيمة كلها، لا يظن التونسيون أن بلدهم استفاد من إمكاناته إلى أقصى حد، فبعد صدور أي فكرة إيجابية، غالباً ما يتم تأجيل أو إلغاء تنفيذها على أرض الواقع.يُعتبر الجدل الأخير حول التاريخ النهائي لانتخابات الجمعية التأسيسية خير مثال على ذلك، ففي الأصل، كان يُفترض إجراء هذه الانتخابات في 24 يوليو، لكن بينما كانت الأحزب السياسية تستعد لهذا الحدث المنتظر، اقترحت السلطة الانتخابية، بشكل أحادي الجانب، استبدال الموعد الأصلي بتاريخ 16 أكتوبر. خلال مؤتمر صحفي مختصر، عدّد رئيس السلطة الانتخابية مجموعة من العمليات التقنية التي يجب إتمامها قبل الانتخابات بحسب قوله، وتشمل تلك العمليات إنشاء لجنة مركزية، وقيام أقسام في المناطق المختلفة، وتحضير مراكز التسجيل، وإعداد برامج تدريب للمديرين التنفيذيين الذين سيتولون مهمة مراقبة العملية الانتخابية، فضلاً عن تحضير المعلومات وإطلاق حملات التوعية. أدت وجهة نظر السلطة الانتخابية إلى انقسام الرأي العام بين معسكرين: الأول يدعم التمسك بالتاريخ الأصلي، والثاني يؤيد تأجيل الموعد. بسبب غياب أي قرار واضح من الحكومة الانتقالية، ساد ارتباك سياسي شديد بدأ يُغرق البلد في أزمة مستجدة، فانتشرت شائعات مفادها أن بعض القوات المعادية للثورة تخطط لتأجيل الانتخابات إلى أجل غير مسمى، فبقيت رواسب الحزب الحاكم سابقاً بزعامة بن علي، والمحظور راهناً، ناشطة من وراء الكواليس، وقد عمد بعض عناصر الحزب إلى الاصطفاف في أحزاب جديدة، ما أثار مخاوف الناس من احتمال سرقة إنجازات الثورة في أي وقت.أخيراً، خرجت الحكومة الانتقالية عن صمتها وأعلنت في 8 يونيو أن الانتخابات ستُجرى في 23 أكتوبر، وفي خطاب متلفز، قال رئيس الحكومة الانتقالية الباجي قائد السبسي: لقد أخذنا بالاعتبار جميع وجهات النظر وقررنا عقد الانتخابات في 23 أكتوبر". وأضاف أن أهم ما في الأمر هو ضمان شفافية هذه الانتخابات، كما أنه اعتبر أن الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في تونس، فضلاً عن انعكاسات الأزمة في دولة ليبيا المجاورة، لا تسمح بحدوث إضرابات أو احتجاجات إضافية. بعد هذا التصريح، ساد شعور عام بالراحة، صحيح أن القرار صدر متأخراً بعض الشيء، ولكنه وضع حداً للتوتر الذي ساد في الساحة السياسية طوال أسبوعين تقريباً. رداً على ذلك الخطاب، أعلنت معظم الأحزاب السياسية دعمها للتاريخ الجديد، وكذلك، عبرت السلطة الانتخابية عن راحتها لأنها فازت بالصراع القائم وراء الكواليس، وشعر المواطنون العاديون في الشوارع بالراحة أيضاً على الرغم من انعدام ثقتهم بالسياسيين، وهكذا تجددت روح التفاؤل في البلد أخيراً.لكن انطلاقاً من هذه الأحداث الأخيرة، يجب أن نتذكر بأن التسوية عامل أساسي في وقت الأزمات، وفي ظل غياب أي سلطة سياسية شرعية، يجب اتخاذ أي قرار مهم بإجماع الأحزاب السياسية والجماعات المدنية كلها من الآن فصاعداً.كذلك، يجب أن يعيد التونسيون اكتشاف معنى إنجاز المهمّات حتى النهاية، فهم يحتاجون تحديداً إلى العمل بجدية أكبر لضمان نهاية سعيدة لأحداث الثورة الأخيرة، وتتمثل تلك النهاية طبعاً ببناء تونس جديدة وحرة وديمقراطية، لكنّ أي انحراف عن تحقيق هذا الهدف، تحت أي شكل من الأشكال، سيعني تفويت فرصة تاريخية أخرى. صحيح أن الأشهر الستة الماضية كانت صعبة، لكن التحدي الأصعب سيبرز في المرحلة المقبلة. بانتظار الانتخابات في 23 أكتوبر، إذ سيتم تكليف جمعية بصياغة دستور جديد سيكون أساس النظام الديمقراطي المعاصر والحديث العهد في المنطقة كلها، على الحكومة الانتقالية أن تتحمل مسؤولياتها.صحيح أن الوضع الأمني تحسن بشكل ملحوظ في الآونة الأخيرة، لكن لم تتم معالجة عدد من القضايا العاجلة الأخرى التي تشمل إجراء تحقيق مستقل في حوادث قتل المتظاهرين خلال أعمال الشغب الأخيرة، وإصلاح السلك القضائي، واعتقال جميع المتهمين بالفساد وإخضاعهم لمحاكمة عادلة، وتجديد بنى عدد من الوزارات الأساسية.تبرز أيضاً قضايا ملحة أخرى مثل البطالة والفقر والتفاوت بين المناطق، فوفقاً لأحدث تقديرات وزارة الشؤون الاجتماعية التونسية، يعيش حوالي 25% من الشعب التونسي حتى الآن تحت خط الفقر، ويوجد معظمهم في المناطق المهمشة حيث بدأت الثورة. يطالب هؤلاء الفقراء والعاطلون عن العمل بالحرية، ولكنهم يريدون أيضاً إيجاد بعض الأموال في جيوبهم لتأمين لقمة عيشهم.يجب أن يتصرف التونسيون سريعاً وأن ينجزوا هذه المهمة على أكمل وجه، لكن لتحقيق ذلك، يجب أن يعتمدوا في المقام الأول على أنفسهم، فبحسب أحد الأقوال المأثورة: في وقت الضيق، لا وجود لأي أخ أو صديق!Bechir Kenzari
مقالات
على التونسيين أن ينجزوا المهمة على أكمل وجه
25-06-2011