الحداثة السياسية: إن لم تكن قطيعة فهي قاطعة
- 1 -يجب ألا تخيفنا كلمة "قطيعة"، فهي إن كانت مخيفة في العصور المظلمة والقرون الوسطى، فقد أصبحت هذه الكلمة "أنيسة" وغير مخيفة لنا في عصرنا الحالي، حيث ثورة المعلومات والاتصالات، وحيث "منظمات حقوق الإنسان" المختلفة.
يشير بعض المفكرين العرب إلى أن الحداثة، عبارة عن قطيعة العلم التجريبي في القرن السابع عشر مع التأملات الإغريقية المُسمَّاة "علماً".فهي قطيعة العقد الاجتماعي مع الحق المطلق.وهي قطيعة فلسفة الأنوار مع المعتقدات الظلامية.وهي قطيعة العقل مع النقل، والثورة الفرنسية مع النظام الإقطاعي، والثورة الصناعية مع الحضارة الزراعية، والفرد المالك لرأسه وفرجه، مع العضو الهلامي الذائب في قبيلته أو طائفته.وهي قطيعة الديمقراطية مع الاستبداد.وهكذا فإن الحداثة ببنيتها ذاتها، بمنطقها الداخلي، بديناميتها، قطيعة دائمة، أو لا تكون، لأنها هكذا حدثت في التاريخ، وهكذا يحتم منطقها الخاص أن تحدث.إنها ككل قطيعة مؤلمة وجارحة.كما أن الحداثة انتصار العقل على النقل؛ أي انتصار الاستدلال على إيمان العجائز، والمعقول على المنقول عن الأسلاف من عادات ومعتقدات عاجزة عن إثبات شرعيتها العقلانية أمام محكمة العقل.- 2 -ربما كان تعريف ما ليس بالعقل، هو الطريق الأكثر أماناً لتعريف العقل.فالمشاعر الشعورية أو اللاشعورية كالحب، والعداء، والشعور بالذنب، ليست العقل، لأنها متحررة من قوانين العقل والمنطق.والفكر السحري ليس العقل لأنه، عكس العقل. يطلب من الواقع إعطاءه نتائج مخالفة لقوانينه.والحدس ليس العقل، لأنه ليس طريقة عقلانية في البحث عن الحقيقة ومعطياته، لا سبيل للتأكد منها، كذلك، فالمخيلة ليست العقل، لأن أحلام اليقظة والإسقاطات والتخيلات، التي تنتهجها على أهميتها في الأدب والفن متمردة على رقابة العقل.كما أن الأهواء والانفعالات الهاذية ليست العقل، لأنها لا تكون قوية إلا بقدر ما يكون العقل ضعيفاً، ونضيف، أن اليقين الدوغمائي الأعمي ليس العقل، لأنه لا يقبل الشك، ولا النقاش المتعارض. وهما من أخص خصائص العقل.كذلك، فإن الرغبة ليست العقل، لأنها مقطوعة من الواقع، وتهزأ من قوانينه، بينما العقل منضبط بقوانين الواقع، التي هي أيضاً قوانينه كقانون عدم التناقض الذي هو الأساس الذي يقوم عليه العلم الحديث.- 3 - ويعتبر المفكر التونسي العفيف الأخضر، الحداثة– كما اعتبرها طه حسين من قبل- كلا لا يتجزأ، مثلها مثل الماء، لا يمكن فصل الأوكسجين عن الهيدروجين، وأخذ حلو الحداثة دون مُرّها، لا يُنتج حداثة، بقدر ما يُنتج مسخاً، وأن فشل الحداثة العربية حتى الآن، سببها أننا ما زلنا نأخذ بطرف منها، كما فعل الأولون في القرن التاسع عشر، كالطهطاوي، وخير الدين التونسي، والنخب السياسية التي حققت مطلبها في الجمع بين الأصالة والحداثة.- 4 -من المعروف أن العالم العربي، كان يرقد في سُبات طويل، منذ انتهاء عصر الخليفة المأمون في القرن التاسع الميلادي، واستمر هذا السُبات إلى منتصف القرن التاسع عشر، حصلت خلالها قطيعة كبيرة بين الثقافة العربية والثقافة الأجنبية من جهة، وبين الثقافة العربية والتراث العربي من جهة أخرى، فكانت القطيعة في الواقع قطيعتين، وليست قطيعة واحدة.وعندما بدأ المجتمع العربي في منتصف القرن التاسع عشر يستيقظ، لم يستيقظ بكامله، وإنما فقط بأجزائه المتنوِّرة التي أتيحت لها فرصة التعليم في نطاق الثقافة العثمانية، أو في أوروبا المتقدمة. لذلك، فإن الفئة التي تولَّت الردَّ، كانت فئة البورجوازية الإدارية التي نشأت في أحضان الاستعمار العثماني أو البورجوازية التجارية، التي نشأت في نطاق التجارة مع أوروبا، وكان موطنها في مصر ولبنان. لذلك، نجد أن هذين البلدين هما مركز الثقافة العربية الحديثة، ومن هنا، نشأت عوائق الحداثة العربية، وكانت تتمثل بالعوائق الثقافية، والاجتماعية، والسياسية، والدينية، والاقتصادية، والعوائق التعليمية.- 5 -يُقرُّ بعض المفكرين العرب، ألا سبيل لدخول العالم العربي والإسلامي إلى رحاب الحداثة إلا بالتدخل الخارجي الذكي والفعال، لدعم النخب الإصلاحية بالضغوط الدبلوماسية، الإعلامية والإنسانية، لتنتصر على النخب التقليدية السياسية والدينية، لإصلاح التعليم الديني، وقوانين الأحوال الشخصية على الطريقة التونسية، ولتبني التقدم التدريجي والحقيقي إلى الديمقراطية، انطلاقاً من الاعتراف بحرية الإعلام، والبدء بتطبيق حقوق الإنسان بتعريف الحد الأدنى: مساواة كل المواطنين، والمرأة بالرجل.فما القوى المؤهلة لممارسة هذه الضغوط؟إنه المجتمع المدني العالمي الصاعد والديناميكي مثل "منظمة العفو الدولية"، و"منظمة حقوق الإنسان"، وغيرها من المنظمات الإنسانية الأخرى، و"لجنة حقوق الإنسان" التابعة للأمم المتحدة، والإعلام العالمي، ودبلوماسية البلدان الديمقراطية.ويقوم بعض المفكرين العرب، بتذكير "الحساسين" من التدخل الخارجي باسم "مبدأ السيادة " بالبدهيات التالية:إن كل مشكل قومي، لا يُحلُّ في الوقت المناسب، يتحوّل إلى مشكل دولي، لأن الحدود بين الداخل والخارج آخذة في التلاشي، أو هي تلاشت، فالسوق الدولية المتدامجة، والعولمة، وثورة الاتصالات، عمّقت "التبعية المتبادلة" بين جميع الأمم، وتعجز النخب العربية عن حلِّ مشكلاتها المزمنة من الصحراء الغربية إلى جنوب السودان، إلى مشكلة الجزر بين الإمارات وإيران، ولولا التدخل الخارجي لكان احتلال صدام حسين الغاشم، ما زال في الكويت. وأن الجمهورية الإسلامية الإيرانية، لم "تُعلِّق" حد الرجم، الذي ذهب ضحيته في العقد الأول للثورة الخمينية 1200 امرأة إلا بفضل تدخل الاتحاد الأوروبي، وأن شيوخ الأزهر لم ينسوا اعتراضهم منذ ثلاثين عاماً على دمج المرأة في سلك القضاء بحجة أنها "عاطفية"، إلا عندما أحسوا بضغوط خارجية قوية، فلم يعترضوا على تعيين امرأة في مجلس الدولة أخيراً.وهكذا يتبين لنا، أن إصلاح العالم العربي والإسلامي سياسياً، واقتصادياً، وتعليمياً، مهمة فوق وسائل العالم العربي إذا تُرك وحده، ومصلحة مشتركة بينه وبين الإنسانية، التي يهمها قطع الطريق على فوضى عالمية دامية.- 6 -لقد مارست النخبة السياسية العربية التقليدية دون انقطاع، سياستين انتحاريتين:سياسة النعامة، وسياسة المشي على حافة الهاوية.الأولى، تتعامى عن رؤية الأخطار الداخلية المحدقة المتمثلة بالمشاكل الحقيقية التي تتطلب معالجتها بنجاعة وشجاعة سياسة بعيدة النظر، مثل مشكلة التنمية؛ أي تحديث وترشيد الاقتصاد والتعليم، وقوانين الأحوال الشخصية، ونزع فتيل قنبلة الانفجار السكاني، وأخيراً الإصلاح الديني، لكي لا يكون هناك أي عائق للتنمية.أما الثانية، فتستدعي الأخطار الخارجية القاتلة بتصريحاتها، وقراراتها، وممارساتها الخرقاء، مقدمة بذلك الأسباب والذرائع لإسرائيل تارة، ولأميركا أو غيرها تارة أخرى، لتضرب ضربتها.ومن هنا نقول، بأنه لا بُدَّ من "القطيعة"، مع ما عرضناه؛ أي الجزم والحزم في اتخاذ القرار وتنفيذه، وإلا تحوّلت هذه القطيعة إلى سكين قاطع لأوصالنا ورقابنا، على المدى الطويل.* كاتب أردني