قبل يومين انتهى مهرجان «البرومز» الموسيقي في لندن، وقد امتد قرابة شهرين. لم تتجاوز حصتي منه ثماني أمسيات موسيقية. الأمسيات الأربع الأخيرة كانت متميزة، لأني فيها قطعت تذكرة البرومينيْد، مع الجمهور الذي يحضر الحفلة وقوفاً. تقليد تواصل منذ نشأة المهرجان قبل مئة عام.

Ad

هناك مساحتان للجمهور الواقف. الأولى في قلب القاعة إذ تُخلى من الكراسي. والثانية في الغاليري، الذي يعلو القاعة وكراسيها، ويحيط بها من فوق، وبصورة دائرية. أفضّلُ هذه المساحة لأنك تطل فيها من فوق على كل شيء. على الجمهور والأوركسترا معاً. ولأن قاعة «البيرت الملكية»، في استدارتها البيضوية، تتسع لستة آلاف مشاهد، فإن المشهد الجليل يُذكر بواحدة من أكثر لوحات الفرنسي مارتن إثارة للرهبة، يصور فيها مجمع الشياطين تحت إدارة إبليس. المشهد، على ما أذكر، مستوحى من قصيدة «الفردوس المفقود» للشاعر الإنكليزي ميلتون.

هذا الغاليري سطح مرمري، لا يُسمح فيه لأكثر من 600 مشاهد. ينتشرون لاطين بالحاجز الحديدي المشبك الذي يُطل على القاعة. هم ومعداتهم التي تُذكر بنزهاتهم في حدائق لندن أيام الصيف. حقائب، وسلال صغيرة محشوة بالأطعمة، وزجاجات الماء والنبيذ. هناك يتربعون في أماكنهم، يأكلون بصمت، يشاهدون ويُصغون بصمت. والذي لا يحظى بمساحة كافية على الأرض، يضطر إلى المشاهدة والإصغاء واقفاً. ولأن النسبة الكبرى من الجمهور من الشباب فإن مزاحمتهم للحصول على موقع ومساحة مناسبين تبدو مستحيلة، ولذلك أكتفي بركن صغير.

من هذه الإطلالة العالية رأيت لأول مرة قائد الأوركسترا الإنكليزي الكبير غاردنر. ورأيت عازفة الفايولين الألمانية الشهيرة صوفيا موتر، ورأيت عازف البيانو الصيني البارع لانغ انغ. رأيتهم وسمعت عزفهم بوضوح وقوة، لأن الصوت يُقبل كريماً إلى هذه الطبقات العليا، ولكني لم أر تفاصيل أصابعهم السحرية وهي تعبث بالأوتار والمفاتيح.

المدهش في هذا الحضور المتواضع لحفل البرومز هو الاستعداد لقطع التذاكر. فأمر الحصول على تذكرة الإصغاء وقوفاً يستدعي الوقوف في طابور الانتظار أولاً. كل حجوزات الكراسي تتم في أيام مسبقة، إلا هذا الحجز، فيتم في يوم العرض ذاته. حين تصل مبنى قاعة البيرت الملكية يُدهشك المعمار الدائري الذي يُشبه طبقاً طائراً. ثم يُدهشك طابوران طويلان بصورة فريدة، يمتدان على رصيفين إلى مدى من الصعب تحديده. فكل واحد له طواعية أفعى، يتلوى حيث يتلوى الرصيف. ولو أنك رأيت المشهد من عين طائر لتبين لك شكل أخطبوط كبير الرأس طويل الأطراف.

علي أن أُنجز الوقوف الطابوري قرابة ساعتين. لأنك لو جئت متأخراً خسرت فرصة الحصول على التذكرة. ثم يأتي الوقوف الثاني الذي يستغرق مدة العزف، وهي لا تقل عن ساعتين أيضاً. والثمرة لا تقتصر على الأعمال الموسيقية وحدها. بل هي وليدة المباهج التي يشعرها الفرد بين الجماعة. نحن نقول عادة: حشر مع الناس عيد. فكيف إذا ما كان هذا الحشر موسيقياً؟

الخامسة وكونشيرتو الفايولين لتشايكوفسكي في يومين متتالين تعني حفلة تنعم بالألحان اليسيرة على الحفظ. كل لحن قبضة يد من العواطف القلبية. وفي يوم آخر نسمع الخامسة لمالر. هذا التطلّع الدامي إلى موطن الأسرار الخفي، في داخل النفس الإنسانية، أو المدى الكوني المجهول. صاخب كسوق داخل الحركة الأولى، ولكن ما إن تأتي الحركة الرابعة حتى يصحبك بأسى المتأمل إلى مدى سماوي آسر. سبق أن أسر المخرج الإيطالي فيسكونتي، الذي استخدم كل الحركة في فيله الشهير «موت في البندقية» (عن رواية توماس مان). ثم كونشيرتو البيانو الرابع لبيتهوفن. وهو أكثر كونشرتاته تآلفاً بين البيانو والأوركسترا المحيطة. ما من تحد هنا، كذلك الذي نراه في الكونشيرتو الخامس مثلاً. ثم نصغي ونتعجب من طلاقة وحرارة العازف الشاب لانغلانغ وهو يقدم كونشيرتو البيانو الوحيد للهنغاري «ليست». وهذا الآخر سيد هذه الآلة، حتى انه اتهم من قبل بعض النقاد بالعضلية، التي تُمليها المهارة والتقنية. ولكنها واحدة من أوهام النقاد.

ينتهي البرومز، وتنتهي الطوابير المليئة بالفتنة. والناس لهم موعد مع برومز قادم. والعمر يتحرك وفق طابوره أيضاً. ولكن لا يعد أحداً!