الارتباط بالتاريخ كان ولايزال من سمات النوع البشري، إذ لم تُعرف للكائنات الحية الأخرى قدرة عاقلة لتسجيل أحداث حياتها، وإنما هي حياة اللحظة تقودها الغريزة والإلهام الفطري. ويبدو أن تعلق الإنسان بتاريخه ومن ثم تدوين هذا التاريخ وروايته وحفظه ما هو إلا صورة من صور طلب الاستمرار والخلود، منذ أدرك حتمية فنائه وموته.
بيد أن التاريخ لا يقف بمفرده كإرث إنساني، وإنما ينهض ويتأكد بالإيمان به وتصديقه أولاً، ثم بترسيخه عبر جملة من المعتقدات والتقاليد والممارسات ذات الصلة المباشرة بهذا التاريخ. وغالباً ما يختلط التاريخ بالعقائد الدينية، وبالحركات التطورية والأحداث التي تصاحب تلك العقائد أو تكتنف مسيرة أنبيائها وأقطابها ورموزها. ومع مرور الزمن قد يصعب فصل ما هو تاريخي عما هو عقائدي. ويبدو أن تحضّر الإنسان وتقدمه لم يمح فطرة التشبث بالتاريخ والماضي وجذوره الممتدة بالدين والعادات والمعتقدات. ترى مثلاً الرجل من طائفة السيخ الهندية وقد عاش في الغرب أو في أميركا لأجيال مضت، وقد يكون عالماً من علماء الذرة أو خبيراً في الهندسة الكيميائية أو مخترعاً فذاً في مجاله، ولكنه لايزال يطيل شعره ويرتدي عمامة السيخ و"يتطهر" في نهر الكنج المقدس، شأنه شأن أي فقير هندي ينام على الرصيف! وحين سقط الاتحاد السوفياتي وزالت قبضة الماركسية سارع المسيحيون والمسلمون على السواء إلى البحث عن أطلال كنائسهم ومساجدهم وإحياء عقائدهم وطقوسهم، بعد ما ينوف عن نصف قرن من العزلة وغسيل الدماغ! فما أعجب تلك الجذور الفطرية الراسخة في التاريخ والدين! تبدأ العناية بالتاريخ في أبسط صورها عند الإنسان في الميل إلى حفظ الأنساب، وتتبع أشجار العائلة وتدوين المذكرات والسير، ثم تتسع نحو توثيق تاريخ الشعوب والأمم والحضارات، صانعة ذلك الجسر العتيد مع الماضي بزخمه ومَوَرانه، وحاصدة في ذات الوقت أمجاده ومراراته وإرثه الثقيل. ويولد الإنسان ليجد نفسه رغماً عنه مربوطاً بهذا الإرث ومتحملاً تداعياته وأوزاره، مرغماً على التطبع به وهضمه وتمثيله، وقد يكلفه الخروج عن هذا الإرث – إن تجرأ على ذلك - ثمناً باهظاً إن لم يكلفه حياته نفسها. هكذا نصبح عبيداً للأسلاف بحق! وعبيداً لجملة من الأعراف والتقاليد الشديدة الارتباط بهذا التاريخ! بل نجد أنفسنا شيئاً فشيئاً من المدافعين الأشاوس عن هذا الإرث، والحريصين على نقله إلى أجيالنا الجديدة ما وسعنا ذلك، مجتهدين أن يستمر هذا الإرث ويبقى ما بقيت الحياة. ولا تقف المسألة عند مجرد الحفظ لهذا التاريخ، وإنما ينفتح باب آخر من الخلافات والنزاعات حول هذا التاريخ، ليؤرّخ لحقب من الخلافات الشرسة والدامية، التي عادة لا يضع لها التاريخ على طول امتداده نهايات أو حلولاً، وإنما تظل أوزارها في ذاكرة الشعوب لتتجرعها الأجيال تلو الأجيال. ولو أخذنا في تعداد الأمثلة في التاريخ الإنساني على ذلك فلن ننتهي. أتذكر في هذا السياق كتاباً من كتب الأطفال بالإنكليزية اقتنيته لأبنائي حين كانوا صغاراً، وكان موضوعه سرد جملة من الأحداث التاريخية في الغرب بشكل مبسط، مدعوماً بالصور الكاريكاتورية والمواقف الطريفة. أما وسيلة الإيضاح الأخرى التي استخدمت في الكتاب لتوصيل المعلومة فهي ترك مساحة صغيرة في كل صفحة، يقوم الطفل بفركها بإصبعه لتنبعث منها روائح حامضة أو نتنة أو مقززة! وكانت الرسالة واضحة: وهي أنه كما للتاريخ أمجاد وعبر، فله أيضاً روائحه الكريهة. هذا ما يحدث عندهم وعبر وسائلهم التعليمية، ولكن من يجرؤ عندنا أن ينتقد التاريخ أو يقول فيه رأياً، أو على الأقل يرسم مساحة صغيرة للروائح الكريهة المنبعثة منه؟!
توابل
تاريخ له رائحة
29-11-2011