أستودع الله في بغداد لي قمراً (3)
بيتُ أبي في "محلة العباسية" (جزء من "المنطقة الخضراء" اليوم) اقتُلع أيام سلطة البعث. توزّع الأخوةُ على أحياء بغداد المترامية. أقمتُ فترة في بيت أحد إخوتي، وكان يملك بيتاً كبيراً في حي المنصور العامر. أيام الحصار والانهيار المعيشي، وزحمة الأبناء، اضطر إلى بيع نصف البيت، وشراء آخر في "حي العامل" المتواضع. نصف البيت المتبقي انقسم هو الآخر، وبيع نصف منه لشراء بيت في حي متواضع آخر. في زيارتي هذه أقمت في بيت "حي العامل"، مع أخي حجي غانم، الذي يقيم مع ابنه الأكبر ذي الأبناء الثلاثة. في البيت البغدادي عادة ما يكون هناك بهوٌ للعائلة، مزدحمٌ ودافئ، وغرفةٌ استقبال للضيوف مهجورةٌ وباردة، وغرفٌ للنوم مزدحمةٌ بالأسرة والأفرشة المطوية. تقاسمنا لمنامنا، أنا والحجي، بهو العائلة الذي لا ينقطع عنه الأهل والأقرباء من كل صوب. المدفئةُ النفطيةُ ملاذٌ أمين (لأن الكهرباء تنقطع عن الناس ثلثي اليوم أو أكثر!)، وهي مشهد مريح للأعصاب بفعل توهجها الناري المؤنس، واعتلاءِ إبريق الماء المغلي ذي الهسيس، يُتوّج بإبريق شاي إذا اقتضت الضرورة. ولا مانع من قرصة خبز تنور مفاجئة توسّع احتراقاتُ أطرافها من مناخير الجالسين.
ـــــ هل من انفجار هذا اليوم؟ ــــ حدث واحد في أول السوق. قنبلة صوتية فقط. تهشم زجاج محلات مجاورة، ولكن ما من قتلى. الحمد لله. "أنمار" جاء بقدر "الهريسة" هذا الفجر. ــــ وقدر "القيمة" أيضاً. مظاهرُ عاشوراء لم تعد تكتفي بقدور "الهريسة" و"القيمة" في "حي العامل"، ولا بمكبرات الصوت الباكية في كل ركن، ولا بالرايات السوداء والخضراء، بل احتلت شوارع الحي، وشوارع بغداد برمتها بصور شهداء الطف، جنباً إلى جنب مع صور زعماء الحركات السياسية من رجال الدين. الأمر يُشعر الناس بالحرج، لأن الناس عادة ما ترى السياسة مخاضة موحلة. فما الذي يُقرب بينها وبين عمائم الدين المهيبة؟! في هذه النقطة بالذات يُدلي الحجي برأيه قائلاً: "السيستاني لا يقبل بذلك قطعاً". ثم يستغفر الله. ـــــ لا تأخذ حماماً، عيني فوزي. انتظر حتى تأتي "الوطنية". "المولدة" غير مأمونة. "الوطنية" هي كهرباء الدولة التي تقطّر على الناس بالمثاقيل. و"المولّدة" أجهزة للطاقة عائدة لقطّاع خاص، تتقاسم أحياء بغداد، والعراق جميعاً. وهي ضعيفة وأجورها عالية. حين تنقطع الاثنتان معاً في ساعة "التعلولة" الليلية، تتسلل إضاءة كريهة، من مصابيح يد بالغة الصغر صُنعت في الصين، خصيصاً لمحنة العراقيين الكهربائية. أقول كريهة لأنها فسفورية شاحبة، تُلقي على الأوجه، إذا ما بلغت الأوجه، شحوباً سرعان ما يُذكّر بشحوب الموتى. والموت، بالرغم من ألفته هذه السنوات، متطفّل مُفسد لساعة الحياة التالية، وما تُخفي لنا من مسرات صغيرة. ولعل اللقاء في المطبخ الواسع، ذي الباب المُشرع دائماً على الخارج، هو واحد من هذه المسرات. لأنه يحتفي بالجميع مراتٍ ثلاث في اليوم: في الإفطار، والغداء، والعشاء. وأحياناً لا ينقطع احتفاؤه طوال اليوم، مادامت أرجل الأهل والأقرباء لا تنقطع. حول المائدة الطويلة لا أنقطع بدوري، أنا القادم من لندن والذي تتزاحم في رأسه الأوامر الصحية، عن "النق" على رأس الحجي المسكين: "لا. لا يصح البيض المقلي يومياً. جبن عالي الدسم!! شنيع. اترك الخبزة من يدك. فقد أكلت من الخبز كفاية! كف عن قرقطة اللوز والبندق المملح. ارحم حالك حجي من الدبس والراشي! اشرب ماءً دون توقف...". والحجي صبور على الرأس المزدحم بالنصائح، القادم من لندن. ــــ هذه مسرات آخر العمر الوحيدة، يا فوزي. انطفأت بي كل المسرات الأخرى. أسألك، وأنت الواعي، هل تريدني أن أنتظر القدر المحتوم، وأنا في هذه العمر المتقدم، وهذه العلل، وهذه المصائب المحيطة، دون أن أسلي النفس بهذه المسرة الوحيدة المتبقية؟ كلماتٌ أفرغت رأسي من زحمة النصائح الصحية، التي بدت في ثانية عُدّة مستشفى: أسرة، شراشف بيض، رائحة يود، حقن جاهزة، أجساد معلّقة بأجهزة... ـــــ ما رأيك بسمك "مسقوف" لظهيرة هذا اليوم؟