- 1 -

Ad

قبل بدء الانتخابات المصرية، كنا ننوي هنا في "الجريدة" أن نتابع حديثنا عن الثورات العربية، وبناء المجتمع المدني، كما كنا ننوي استعراض ما جاء في كتاب "المجتمع المدني: التاريخ النقدي للفكرة" لجون أهرنبرغ أستاذ العلوم السياسية في جامعة لونغ إيلاندLong Island الأميركية، والناشط في الحقوق المدنية ومناهضة الحروب، وصاحب الكتابات الكثيرة في الفكر الديمقراطي والنظرية السياسية، ولكن الحدث السياسي الأبرز (الانتخابات التشريعية المصرية) فرض نفسه على الأحداث، والكتّاب، والمعلقين السياسيين، خصوصاً عندما حملت لنا الأخبار صعود التيار الديني (جماعة "الإخوان المسلمين" ممثلة في "حزب الحرية والعدالة" و"حزب النور" السلفي وحزب "الوسط" الإسلامي" في انتخابات الأقاليم والأرياف المصرية، حيث تبلغ الأمية بين الذكور والإناث نسبة عالية جداً، ويسود الفقر، ونقص المواد الغذائية، وقيام التيار الديني بتوزيع الزيت والسكر، والمواد الغذائية الأخرى كاللحوم وغيرها، على الناخبين الفقراء من سواد الناس.

- 2 -

عودا على بدء، ومن خلال تأكيدنا على عدم الابتعاد عن موضوعنا الرئيسي، فإن المجتمع المدني العربي ما زال يعيش في أزمة خانقة، كما يرى معظم علماء الاجتماع العرب، وعلى رأسهم حليم بركات. فالدولة العربية (دولة الاستقلال) هيمنت على معظم مرافق الحياة العربية، وقامت بتهميش الشعب، والحد من مبادرته ومشاركته في عملية التغيير، وذلك بحرمانه من حقوقه السياسية، ومن إقامة المنظمات والهيئات السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية، التي تساعد على تغيير المجتمع من داخله، كما قامت الدولة العربية باحتكار السلطة في فئة معينة من الناس، وحالت بين السلطة، وتداولها، وخالفت مبادئ الإسلام الذي ينادي بتداول السلطة "وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ" (آل عمران،140).

ويشير العفيف الأخضر المفكر التونسي، في مقالاته المختلفة: "تداول الأجيال، أو الطوفان" ("الحياة"، 1/9/2002)، و"ألا تستحق الدولة الفلسطينية تغيير القيادة؟" ("الحياة" 30/6/2002) ، و"رسالة مفتوحة لعرفات: اقبل تضحية أخيرة من أجل فلسطين" ("الحياة"، 7/7/2002)، إلى أن تعطيل تداول السلطة في العالم العربي على نحو ديمقراطي، امتد نحو نصف قرن- منذ قيام دولة الاستقلال العربية- كانت نتيجته وضع بن لادن للعالمين العربي والإسلامي في عين العاصفة، منذ 11/9/2001. وكانت نتيجته أيضاً ضياع الفرص السياسية المتكررة والمواتية، لقيام الدولة الفلسطينية.

- 3 -

قامت منذ نصف قرن في العالم العربي، ما يُعرف بأزمة المجتمع المدني، التي ردها كثير من علماء الاجتماع العرب إلى هيمنة "دولة الاستقلال" هيمنةً بطريركية على نشاطات المجتمع السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية. فمنذ قيام دولة الاستقلال العربية، مع بداية النصف الثاني من القرن العشرين، نشأت أزمة المجتمع المدني العربي بقيام الدولة التسلطية العربية، لملء الفراغ السياسي، الذي تركه الاستعمار البريطاني والفرنسي، في العالم العربي. وكانت أزمة المجتمع المدني العربي إحدى الكوارث التي جلبها "الاستقلال" السياسي الشكلي على العالم العربي. ويُحلل علماء الاجتماع العرب، سبب أزمة المجتمع المدني العربي هذه، من خلال قول حليم بركات- أحد علماء الاجتماع السوريين-الأميركيين المعاصرين- إن أزمة المجتمع المدني العربي ناتجة عن هيمنة الحكم العربي على المجتمع، وعن تهميش الشعب، والحد من مبادراته ومشاركته، في عملية التغيير، بحرمانه من حقوقه الإنسانية الأساسية، ومنها حقه بالعمل المنظم، والتعبئة الشعبية، من خلال مؤسساته، وجمعياته المهنية، واتحاداته، ونقاباته، وأحزابه، ومنظماته، ومختلف الحركات الاجتماعية المستقلة، التي يمكن العمل من خلالها على تغيير الواقع. وأن البحث في أزمة المجتمع المدني، هو البحث في ممارسات الدولة التعسفية للسلطة. فلقد سلبت الدولة العربية المجتمع من وظائفه الحيوية، واحتكرتها لنفسها.

- 4 -

ونكتفي اليوم بهذا القدر عن المجتمع المدني، ونلتفت مرة أخرى إلى ما جرى البارحة في مصر، وما سيجري في مصر حتى المرحلة الأخيرة من الانتخابات التشريعية في 11 يناير القادم، وهي من الأهمية بمكان، لما لها من أثر كبير، ليس على مستقبل مصر فقط، ولكن على مستقبل العالم العربي ككل، خصوصاً في الخليج، والأردن، والجزائر، وبقية الدول العربية، التي لم يحدث فيها انفجار بركان الثورة العربية بعد.

- 5 -

فما الأسباب المهمة التي أدت إلى صعود التيار الديني في الانتخابات التشريعية المصرية؟

1- كان من الواضح قبل الانتخابات التشريعية المصرية، وقبل الانتخابات التونسية، والمغربية، أن التيار الديني المصري المتمثل بحزب "الحرية والعدالة" (الجناح السياسي للإخوان المسلمين) والحزبين الإسلاميين "حزب النور" السلفي، و"حزب الوسط" اللذين أنشئا بعد 25 يناير، تيار قوي ونافذ في الشارع المصري المتدين تديناً شعبياً بطبعه. وقد صدرت دراسات اجتماعية كثيرة في مصر وخارج مصر تؤكد ذلك. لذا، كان من السهل على التيار الديني أن يحقق في مثل هذا المجتمع أغلبية نيابية، بلغت يوم الجمعة 2/12/2011، كما أعلنت السلطات 65% (37% لحزب "الحرية والعدالة"، و24% لحزب "النور" السلفي، و4% لحزب "الوسط")، بينما لم تحصد الأحزاب الليبرالية غير 20% (15% الكتلة المصرية، و5% حزب الوفد). ومازال أمام الليبراليين الوقت الكافي لجمع الصفوف ورصها، والاستفادة من أخطاء انتخابات المرحلة الأولى، وتفاديها في المرحلتين القادمتين، وفي انتخابات مجلس الشورى الذي سيشترك مع مجلس الشعب، في "اللجنة التأسيسية" لكتابة دستور مصر الجديد، فالأمر لم يُحسم نهائياً بعد، لمصلحة أي فئة من الفئات.

2- تؤكد الدراسات الاجتماعية المصرية المختلفة، أن نسبة الأمية، والفقر، والبطالة، والتمسك بالشعائر الدينية الشعبية، وزيارة أضرحة الأولياء، مازالت مرتفعة كثيراً في الريف المصري في شماله وجنوبه. وتقول الكاتبة المصرية غادة شريف إن "مصير هذا البلد فى يد 40% من الجهلاء الفقراء، ونسينا أن الصوت الواعي فقط هو الأمانة، وليس صوت الأُمي القابع تحت خط الفقر. أما أن يأتي الإسلاميون بسيف الغرامات (500 جنيه لمن يمتنع عن التصويت)، وسيف اللحمة، وأكياس الرز، ثم نقول إن مصر تشهد ميلاد الديمقراطية، فهذا هو "الهجص" الممزوج بالتهريج". (جريدة "المصري اليوم"،12/2/2011).

3- ومن الملاحظ، أن النجاح الساحق الذي حققه التيار الديني، كان في الأرياف المصرية، وليس في المدن الكبيرة كالقاهرة والإسكندرية، حيث حققوا نتائج متواضعة جداً. في حين أن "الكتلة المصرية" الممثلة لمجموعة من الأحزاب العلمانية والليبرالية المصرية، قد حققت في المدن نتائج أفضل، مما يدل على أن التيار الديني استطاع اختراق الأرياف المصرية الفقيرة، والأمية والمتخلفة، أكثر من استطاعته اختراق المدن الكبرى المتعولمة، ذات الناخبين الأكثر وعياً، والأقل نسبة في الفقر والأميّة.

4- إن مصر ليست وحدها البلد العربي، الذي أصبح واضحاً فيه غلبة التيار الديني على المدني، لو أجريت انتخابات شفافة ونزيهة وبعيدة عن التزوير، فهذه ظاهرة أصبحت تنسحب على معظم البلدان العربية، في ضوء ضعف وهشاشة وهزال المعارضة الحزبية العلمانية والليبرالية، وتفتتها، وتهافت خطابها السياسي والاجتماعي. وفي ضوء ما لحق بالتيار الديني في السابق من اضطهاد، وسجن، ومطاردة، ومنع، وعزل. ويبدو أن التيار الديني، قد أصبح مثل "التسونامي" الكاسح الطاغي، الذي لا يعرف الحدود السياسية المصطنعة من المغرب حتى مصر، وهو يضرب الآن معظم الشواطئ العربية.

- 6 -

وبعيداً عن هذه الأسباب، ورغم هذا النجاح الكبير المتوقع، في الانتخابات التشريعية للتيار الديني، فإن التيار الديني لن يستطيع وحده تشكيل حكومة مدنية، دون التحالف مع أحزاب علمانية وليبرالية أخرى. لذا، رأينا أن "حزب النهضة" الإسلامي يتحالف في تونس مع "حزب المؤتمر من أجل الجمهورية" العلماني، ورأينا كيف أن حزب "العدالة والتنمية" المغربي، يبحث الآن التحالف مع أحزاب أخرى، لتشكيل الحكومة المغربية، وسيفعل التيار الديني الأمر نفسه في مصر، بعد انتهاء المرحلة الثالثة من الانتخابات، في الحادي عشر من يناير القادم. ويؤكد المفكر التونسي العفيف الأخضر أن "مناخ الأزمة المالية والاقتصادية العالمية مُواتٍ تاريخياً الآن لأقصى اليمين. وليس مصادفة أنه في اليوم الذي انتصر فيه حزب "النهضة" التونسي، فاز أيضاً أقصى اليمين السويسري بـ%30 من الأصوات. وطوال عامي 2010- 2011، حقق أقصى اليمين اختراقات انتخابية مشهودة، في جُلّ بلدان الاتحاد الأوروبي. (انتصار "النهضة" وعدٌ أم وعيدٌ؟ 11/11/2011).

* كاتب أردني