لا يكفّ الشاعرُ عن إملاء قصيدته على ورقة. كتابةُ هذه القصيدة هي أقصى مساعي الشاعر. ألا يبدو لك بائساً؟ ولكن هذه هي الحقيقة. اقرأ التاريخ لاستقراء الشواهد: شعراء تحت رعاية بلاط، شعراء بمظاهر بلهاء في خمارات، شعراء في المعتزلات الموحشة باسم التأمل، شعراء داخل اللياقة الاجتماعية، شعراء مسلّون أمام الجمهور الملول، شعراء شُعث في مظاهرة سياسية، شعراء في لباس رسمي لائق على مكاتب وظائفهم... لكنهم جميعاً، وعلى اختلاف هذه المظاهر، يشتركون في خطيئة واحدة: هي إملاء هذه الورقة البائسة في الجيب. وكلُّ مهمة أخرى تُناط بهم كشعراء، ستبدو غير عادلة. نعم، على الشاعر أن يعمل بفاعلية ذراعيهِ أو عقلِه لكسب الرزق، ولكنه لا يملكُ أن يكسِبَ رزقَه بتلك الورقة البائسة. هذه بديهة نعرفها جميعاً، ولكنْ حدث أن اختُطفت هذه البديهةُ وأُخفيت. لأن تلك الورقة يمكن أن يُنتفَعُ منها في سبل غير سبلها، التي تهدف اليها بحكم طبيعتها وغريزتها. تماما كما انتفع الانسانُ، من أجل إرضاء نزعةِ الشرِّ فيه، من قصبة الزرعِ في الطبيعة، في بيت المتنبي الرائع:

Ad

كلما أنبتَ الزمانُ قناةً      ركّبَ المرءُ في القناةِ سِنانا

فرُكّبت للقصيدة مهامٌّ دخيلةٌ ليست من مهامها ولا من طبيعتها. أصحاب الغايات النفعية الجديدة غاية في الذكاء والمهارة. انتفعوا من اللغة (الوسيلةُ المشتركةُ بين الشعر وغيرِه من مهمات الكلام) ففصَلوا المضمونَ عن الشكل الذي تَلبّسها. جعلوا للقصيدة، في مشروع الانتفاع، مضموناً يمكن أن ينطوي على رسالة، وشكلاً في اللغة يبدي مهارة الفنان.أوهموا الشاعر بالقيمة المستقلة للشكل ولغتِه، وشغلوه بها. واصرفوا مع مراحل التاريخ يعبئون المضمون بما يرونه صالحاً لرسالتهم (ومصدراً لدخل الشاعر أيضاً): قبيلة، سلطاناً، حزباً جماهيرياً، عقيدة، أعرافَ مرحلة، مفاهيمَ، وكل ما يهدف الى غاية نفعية مباشرة. التاريخ كان كفيلاً بتطويع الشعراء، أو القسط الأعم منهم، وتلقينهم بأن هذه المهمات هي مصدر إنسانيتهم وغناهم وصلاحيتهم للبقاء. وهناك من ذهب أبعد مع الشكل، لا كقيمة مستقلة فقط، بل كقيمة وحيدة ومطلقة. خاصة في التيارات المتأخرة.

الشاعرُ الحقيقي (لا تسألني الآن عن معنى الحقيقة!) هو الذي يعرفُ، داخلَ خيوط العنكبوت، أن مضمونَه لا يخرجُ إلا من شكلِه. وأن شكلَه لا يولدُ إلا من مضمونِه. وإنهما وليدا معتركٍ داخلي، هو بدوره وليدٌ مشذَّبٌ، عَبر مِصفاةٍ معقدةٍ، لمعترك مع الخارج. هل ترى أيّ  سبيل ممكن للانتفاع من هذه الورقة البائسة، وليدة هذه اللخبطة المحرجة للإنسان الملتبس على نفسه، حسب تعبير التوحيدي؟!

هناك نفع عظيم صدّقني. ولكن على شرط أن تقتلعَ تلك الآفة، آفةِ "مسؤوليةِ الشاعر" الممْهورةِ بذكاء على طرف تلك الورقة البائسة. لا أريد أن أُعطي للشعر مهمةً خطيرة، كتلك التي أعطاها الشاعر والناقد الانكليزي ماثيو آرنولد، إذ جعله بديلاً للدين، بعد زوال تأثير المسيحية. ما من فن يرتقي الى مصاف التأثير الديني. ولكن بعد اقتلاع آفة "مسؤولية الشاعر" تلك سيتحرر الشاعرُ من أسْرِ المضمون والشكل. أسرِ مهماته المملاة عليه، ليتطلع من جديد الى أفق حساسيتِه وعاطفته ورؤيته، التي تتسم بالفرادة والندرة. هذا الأفقُ جديدٌ أبداً على حركة الانسان حيث يكون: يأخذ بيده الى السلم. الى ارتقاء المرتفع. الى الإطلالة التي تريه ذاته، والآخر، والحياة، والكون عن مبعدة، من أجل اتضاح الرؤية. أنت تحتاج الى مسافةً ما مع اللوحة الفنية لكي تتعرف على مصادر سحرها وتناغم مكوناتها، أليس كذلك؟ ولكن صحبة القصيدة على السلم، على المرتفع، إنما تنفرد برعاية فائقة التأثير على الكيان، تتمثل بالموسيقى. هناك نفع عظيم، أنا على يقين من ذلك، استعِدْ أبا العلاء، شيكسبير، دانتي، رومي، طاغور... وعشرات، مئات. ولك أن تتخيل أرضَنا الأم، هذه الدوارة أبداً، وهي خالية من تلك الورقة البائسة في جيوبهم.

أيةُ ريح سموم، ضارية!