الربيع العربي الممتد منذ نحو عام كامل تقريباً، وهو يجرف الحكومات العربية الواحدة تلو الأخرى، ليس الأول من نوعه في منطقة الشرق الأوسط التي شهدت ربيعاً مماثلاً، وأشبه ما يكون كلعبة الدومينو في نهاية عقد الخمسينيات حتى أواخر عقد الستينيات من القرن الماضي.

Ad

ولكن ثمة مفارقة عجيبة بين هذين الربيعين ومن بعدين أساسيين: الأول يكمن في البعد الثوري والناصري تحديداً إبان الربيع الأول الذي رفع شعار مقارعة الاستعمار وعملائه من الأنظمة الملكية التي باعت إرادة الأمة وثروات الشعوب لقوى الإمبريالية الأوروبية وتحالفت مع المستعمر الأميركي الجديد، إضافة إلى شعار المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي خصوصاً بعد هزيمة حزيران النكراء.

أما البعد الثاني في الربيع الأول فيتمثل بجغرافية الحراك الذي بدأ من مصر أيضاً لتسقط فيها أولى الحكومات الملكية العربية ولتسقط بعدها الأنظمة الملكية تباعاً كأحجار الدومينو في العراق وليبيا واليمن ثم الأنظمة العسكرية مثل سورية وتونس والجزائر، وكانت منطقة الخليج هي الحلقة الثانية في سلسلة الربيع العربي الأول حيث شهدت مداً قومياً جارفاً، إلا أن الملكيات الخليجية صمدت وتجاوزت تلك العاصفة ولعبت الثورة النفطية دوراً حيوياً وتنموياً في رفض الفكر الثوري الذي دخل معظم العواصم العربية على ظهور دبابات الجيش؛ في انقلابات قادتها مجاميع من الضباط الشباب.

دون الدخول في تفاصيل تلك الثورات ومسيرتها التاريخية إلا أن نتيجتها كانت حتمية ومتوقعة في ظل ما تركته من فقر واضطهاد وتفرد الحزب الواحد، وتحولها إلى ملكيات جديدة، ولكن بثوب الجمهورية، وتفشي كل أشكال الفساد المالي والسياسي داخل بلاط الحكم، ولذلك جاءت ثورات الربيع الثاني من أجل الحرية والمشاركة في السلطة وليس ضد الاستعمار ولا إسرائيل!

أما الموقف الخليجي شبه الموحد من أحداث الربيع الثاني فيمثل مفارقة أخرى كصورة معكوسة للربيع الأول، فبينما كانت دول الخليج هي المستهدفة من قبل الحكومات العربية الثورية آنذاك، وكان لها رصيد شعبي وتعاطف جماهيري لا يستهان بها، وتم التعامل معها بقسوة في بعض الأحيان، أصبح الخليج العربي نفسه اليوم خصوصاً عبر قناة "الجزيرة" هو المتنفس الإعلامي الأهم والمظلة الأبرز لحماية الشعوب العربية الثائرة بعدما هدأت شبكات التواصل الاجتماعي، وحجبت مواقع "الفيس بوك" و"التويتر" عنها.

ولم تقف دول الخليج عند الحد الإعلامي، بل صارت تمسك بزمام المبادرة الميدانية والسياسية لخنق الحكومات المغضوب عليها، بل المساهمة المباشرة في إسقاطها مثلما حدث في ليبيا، وما يحدث اليوم مع سورية ولعل بعد ذلك في اليمن.

وباتت دولة قطر هي "الدينامو" المحرك للسياسة الخليجية، وبما تملك من آلة إعلامية جبارة قادرة على خلق رأي عام واسع، وبالتالي قد يكون لهذه الدولة الخليجية الصغيرة دور مهم وبارز في رسم معالم الشرق الأوسط الجديد، ويكون لها حساب قوي في موازين السياسة الإقليمية مستقبلاً.

ويبدو أن الدوحة ماضية في ترجمة شعارها الجديد "كويت الماضي... دبي الحاضر... قطر المستقبل" على أكثر من صعيد، وأن هذا العنوان يحمل أكثر من مدلول ولا يقف عند مفهوم التنمية الاقتصادية فقط!