إلى جانب أن القراءة تقدم زاداً معرفياً إلى الإنسان، فإنه يشار إليها حالياً، في مدارس العلاج النفسي، بوصفها واحدة من التسليات الكبيرة والآمنة للإنسان في عصر العنف والقلق والسرعة. كونها تأخذ القارئ إلى عالمها الفسيح والمتنوع بعيداً عما يحيط به. تخرجه من بيئته ومحيطه وهمه الذاتي. تغيّر من حالته المزاجية، وربما قلبت ضيق صدره فسحة وراحة.

Ad

(كتاب الأخلاق والسِّيَر- رسالة في مداواة النفوس) لابن حزم الأندلسي، الصادر عن دار بدايات للنشر، بطبعة جديدة: 2007، يقدم خبرة حياة مفكر وفيلسوف "أحد أكبر علماء الأندلس"، وهو في هذا يقول: "أما بعد، فإني جمعت في كتابي هذا معاني كثيرة أفادنيها واهب التمييز تعالى بمرور الأيام وتعاقب الأحوال... حتى أنفقت في ذلك أكثر عمري وآثرت تقييد ذلك بالمطالعة له والفكرة فيه... ودوّنت ما سبرت من ذلك بهذا الكتاب لينفع الله تعالى من يشاء من عباده" ص6.

ابن حزم الأندلسي (994-1069م) صاحب الكتاب الشهير (طوق الحمامة) كان يُضرب به المثل في حدة وسلاطة لسانه حتى قيل: "سيف الحجاج ولسان ابن حزم شقيقان"، ولقد أورثه ذلك عداوات ومكايد كثيرة، وصلت به إلى حد قيام المعتضد بن عباد أمير إشبيلية، "بإصدار قرار بهدم داره، ومصادرة أمواله وحرق كتبه"، ليوضع قيد الإقامة الجبرية لحين وفاته في قرية "لبلة" غربي الأندلس.

إن واحدة من أكثر اللحظات وجعاً في قلب ابن حزم، هي لحظة رؤيته لكتبه تُحرق أمام ناظريه، وكأن في ذلك حرقاً لجهد عقله، وإمعاناً في إيذائه وعقابه. لكنه ظل معتزاً بقناعاته وآرائه، مفاخراً بتمسكه بها:

إن تحرقوا القرطاس لا تحرقوا الذي     تضمنه القرطاس بل هو في صدري

يقيم معي حيث استقلت ركائبي     وينزل إن أنزل ويدفن في قبري

في "كتاب الأخلاق والسير"، يقدم ابن حزم عصارة خبرته الإنسانية، في معظم نواحي الحياة، وهو يقول: "كل أمل ظفرت به فعقباه حزن إما بذهابه عنك، وإما بذهابك عنه" ص7، وكأن الفرح هو الحالة العابرة، والحزن وانشغال الفكر هو الأعم في حياة الإنسان. فالزوال أو التحول هو الأصل في الأشياء، وإذا ما ثبتت أشياء بعينها، فإن حياة الإنسان سائرة إلى تقلب، وهي في تقلبها إنما تضفي طعماً وفهماً مختلفين يولدان مع مطلع كل صبح.

إن خبرة الحياة بالنسبة للفيلسوف والعالم المتمعن فيها، تقدم له فهماً عميقاً، يصوغه في جمل وعبارات واضحة، تكون بمنزلة المعبر إلى الحقيقة: "الأمن والصحة والغنى لا يعرف حقها إلا من كان خارجاً عنها، وليس يعرفه من كان فيها"ص27 فعيش اللحظة بعجلتها الراكضة، وضجيجها الدائر، يعمي البعض عن فرصة النظر إليها، فجني الثمار فوق الثمار من البستان، يشغل عن النظر إلى جمال وسعة البستان. وكم هو مؤلم النظر إلى البستان بعد مفارقته والخروج منه، حين يصبح أثراً بعد عين؟

درج المحبة خمسة أولها الاستحسان وهو أن يتمثل الناظر صورة المنظور إليه حسنة أو يستحسن أخلاقه، وهذا يدخل في باب التصادق. ثم الإعجاب، وهو رغبة الناظر في المنظور إليه وفي قربه. ثم الألفة وهي الوحشة إليه متى غاب، ثم الكلف، وهو غلبة شغل البال به. وهذا النوع يسمى في باب الغزل بالعشق. ثم الشغف وهو امتناع النوم والأكل والشرب إلا اليسير من ذلك. وربما أدى ذلك إلى المرض أو إلى التوسوس أو إلى الموت. وليس وراء هذا منزلة في تناهي المحبة أصلاً" ص60.

ابن حزم الأندلسي مثال لعالم جليل ثابت على الحق، تقلبت به الحياة، ووحده علمه ظل حياً وحاضراً في كل الأزمان.