بين الانفلات و الإفلات
سألني صديقي: ما رأيك في "الإفلات" الأمني الذي نعيشه؟ أجبته: تقصد "الانفلات" الأمني، ابتسم صديقي ورد: لم أعهدك يوما مراوغا، ولم تشكُ في أي وقت مرضا في أذنيك، بل أعني ما سمعته حرفيا... وتركني وذهب.نعم، نعيش حالاً من الفوضى وعدم الانضباط في الشارع المصري، ومعدل الحوادث يرتفع بين فترة وأخرى، وأحيانا كثيرة وفي مناطق متفرقة تحدث جرائم لم تكن تحدث من قبل، هذا صحيح وصحيح أيضا أن ذلك كله بدأ بالتراجع أخيرا، ولكن كلمات صديقي مازالت تتردد في أذني.
أؤمن تماما أن المجلس العسكري يسعى– عن عمد- إلى إحداث فوضى سياسية منذ استفتاء مارس إلى الآن تحت ذرائع مختلفة ومسميات متشابكة (سبقت الإشارة إليها وتحديدها كثيرا)، ولكن هل يسعى المجلس وهو مسؤول أيضا عن: "الإفلات" الأمني الذي نعيشه الآن؟عندما حدث "الإفلات" الأمني الأول في 28 يناير كان الهدف واضحا، وهو القضاء على ثورة يناير وعودة النظام السابق، وكانت "الداخلية" مسؤولة عنه تماما، وحيث من المستحيل عودة عقارب الساعة إلى الوراء لم يعد لـ"الداخلية" دور في "الإفلات" الحادث الآن. صحيح أن بعض ضباطها مازالوا غير معتادين على معاملة المواطن بكرامة، ومطالبة المواطنين لهم بذلك تضايقهم وتشعرهم –خطأ- أنها تحط من شأنهم، وتقلل من مكانتهم، ولكن لا يصل هذا الإحساس إلى درجة المسؤولية أو التسبب في ما يحدث الآن، وإذا لم تكن "الداخلية" مسؤولة فهل المجلس العسكري هو المسؤول؟ إن الفوضى السياسية مهما كانت أو زادت واستمرت شهورا وسنوات لا يمكن مقارنتها أبدا بدماء مواطن مصري واحد تهدر في حادث أمني أو بوثيقة واحدة تحترق من وثائق تاريخ مصر التي احترقت أخيرا، ولكن لمَ يسعى المجلس العسكري إلى "الإفلات" الأمني؟سبق أن قلنا إن المجلس لا يجيد السياسة، وهذا ليس تقليلا من شأن أفراده، ولكنها عقيدة ونشأة عسكرية تربوا عليها، فعلى سبيل المثال تمنع العقيدة العسكرية الجيش من الإعلان عن عدد ضحاياه في الحرب حرصا على الروح المعنوية لباقي الجنود، وهذا ما أعلنه صراحة أحد أفراد المجلس وقت أحداث "ماسبيرو"، ولكن هذه العقيدة لا مكان لها في العمل السياسي، حيث لا يمكن الدفاع عن رأي أو التمسك بموقف دون الحديث عن إيجابياته، وما أصابك من ضرر نتيجة الدفاع عنه.وثانيا- وهذه لا علاقة لها بالعقيدة العسكرية- فمنذ أحداث حلوان وبعدها إمبابة، إلى ما حدث بالأمس أمام مجلس الوزراء والمجلس يصرح أنه سيعلن أسماء المتورطين، وإلى الآن لم يتم الإعلان عن اسم واحد، فإما أن المجلس يتستر عليهم وإما أنه لا يعرفهم ويخدعنا أو لا يوجد متورطون أصلا ويكذب علينا، وفي كل الأحوال يفقد المجلس مصداقيته ويخسر ثقة الشعب. كل ذلك يؤدي إلى حال من الاحتقان الشديد جدا بين المواطنين– متظاهرين وغير متظاهرين- والمجلس إلى درجة أن صرح يوما أحد مؤيدي المجلس "نحن نحب المجلس ونؤيده ولكنه لا يعطينا الفرصة للدفاع عنه"، وحال الاحتقان هذه هي ما تؤدي إلى تردي الوضع الأمني. كما أن التعامل الأمني الخاطئ من جانب المجلس في كل هذه الأحداث هو ما جعلها تتفاقم وتزداد وتختلف حولها الآراء وتتشعب وجهات النظر.وأخيرا هل يعتقد المجلس العسكري أن استمرار هذه الحال سيدفع الشعب إلى التمسك به؟! بالتأكيد لا بل العكس هو الصحيح، فاستمرار "الإفلات" الأمني سيدفع الجميع إلى رفض كل شيء بما في ذلك المجلس ذاته؛ لأنه وببساطة شديدة فشل –عن عمد- في تحقيق الأمان للمواطن. وتوأم "الإفلات" الأمني هو "الانفلات" الإعلامي، وهو أشد خطرا... إلى المقال القادم.