حين أجريت أول انتخابات من نوعها في دولة الإمارات العربية المتحدة عام 2006، لانتخاب نصف أعضاء المجلس الوطني الاتحادي ذي الصلاحيات الاستشارية، كانت الحكومة أكثر إلحاحاً ورغبة في توسيع المشاركة السياسية لمواطنيها، بينما كان المواطنون أقل شغفاً بتلك الممارسة الجديدة وغير واضحة المعالم في آن.

Ad

لكن الانتخابات الثانية من نوعها في هذا البلد الخليجي الغني، والتي من المفترض أن تكون قد جرت أمس السبت، تجيء في ظروف مختلفة نسبياً؛ إذ يبدي المواطنون شغفاً واهتماماً أكبر بالعملية الانتخابية، ويطلبون توسيع المشاركة، عبر زيادة قاعدة الناخبين من جهة، وتعزيز صلاحيات المجلس الاتحادي من جهة ثانية، وزيادة عدد المنتخبين مقارنة بالمعينين من جهة ثالثة.

منذ نجح الزعيم الإماراتي الأسطوري الشيخ زايد آل نهيان في إقامة إحدى أهم التجارب الوحدوية وأنجحها في الوطن العربي، مؤسساً دولة الإمارات العربية المتحدة عام 1971، تكرست شرعية النظام الحاكم في ذلك البلد، وقد رسخت وتعززت تلك الشرعية بالإدارة الحكيمة والشجاعة التي أبداها على مدى فترة حكمه التي امتدت لأكثر من ثلاثة عقود.

وقد جاءت عملية انتقال السلطة سلسة وناعمة إلى درجة كبيرة، وأظهر الوريث الشيخ خليفة النجل الأكبر للشيخ زايد قدرة ملحوظة على المضي قدماً في تنفيذ رؤية والده، بأقل قدر ممكن من التعثر والمشكلات، كما أظهر قدرة واضحة على احتواء طموح أشقائه من جهة، وعلى احترام مكانة شركائه من حكام الإمارات الأخرى من جهة ثانية.

لا يبدو أن هناك أي قدر من الشكوك حول مدى رسوخ شرعية النظام الحاكم في دولة الإمارات ولا أي من الإمارات السبع التي تكون الاتحاد، بل إن التفاف المواطنين حول الأسر الحاكمة في ذلك البلد يبدو في ازدياد.

الأمر ذاته يمكن قوله في ما يتعلق بدرجة الرضا عن السياسات بشكل مجمل، فضلاً عن القدرة الواضحة للإمارات كدولة اتحادية، وأبو ظبي كعاصمة ورئيسة وممولة للاتحاد، على مواجهة المشكلات المالية الجذري منها والطارئ.

فعلى الرغم من الأزمة المالية الطاحنة التي ضربت الإمارات كلها، ودبي تحديدا، ضربات موجعة في العامين 2008 و2009، وما خلفته من آثار ضخمة على قطاعات العقار والسياحة والخدمات بشكل عام، فإن عائدات النفط الكبيرة، والملاءة المالية الضخمة المستثمرة في صندوق أبو ظبي السيادي، وبعض المرونة في تدوير أملاك وتسييل أصول خارجية والحصول على قروض متوسطة وطويلة الأمد، مكنت البلاد من تجاوز هذا المأزق سريعاً.

وها هي الإمارات تحتل اليوم مرتبة بين الدول العشر الأولى في العالم لجهة نصيب الفرد من الناتج الإجمالي المحلي، الذي يبلغ نحو 50 ألف دولار سنوياً، في ظل معدل تضخم لا يتعدى 1%، بينما تبقى البطالة تحت حاجز الـ3% من قوة العمل المحدودة جداً في الأساس.

ليس هذا فقط، بل إن الحكومة الإماراتية المبادرة والمرنة، استطاعت أن تقلل حجم اعتماد الاقتصاد الوطني على قطاع النفط والغاز إلى نحو 25%، بعدما وفرت مساهمات ضخمة من قطاعي الصناعة والخدمات، وهي المساهمات التي رفعت حجم الناتج المحلي إلى نحو 300 مليار دولار سنوياً، يحتل بها الاقتصاد الإماراتي المرتبة الثانية بين أكبر الاقتصادات العربية.

تبدو الإمارات أيضاً في طريقها إلى تحقيق مكانة عالمية فريدة كوجهة عيش آمن وسعيد وفاخر، وتظهر كدولة مسالمة تمتلك ذراعاً دبلوماسية مقبولة وعلى قدر من النشاط، على الرغم من أنها تعيش في منطقة مؤرقة بالأطماع والفتن، وعلى الرغم من نزاعها مع إيران على جزرها الثلاث المحتلة، كما تبرز محاولاتها الدؤوبة لتحقيق اختراقات على صعد ثقافية وفنية ورياضية، تعزز مكانتها وتعمق إحساس الفخر الوطني لدى مواطنيها.

الإمارات أيضاً تبقى جنة ضرائبية إذا ما قورنت بغيرها من دول المنطقة أو العالم، كما أن قطاعاً بين مواطنيها، الذين يقل عددهم عن مليون نسمة، حصل على الجنسية بالتجنس، مقابل أغلبية من المواطنين المنتمين إلى القبائل من سكان البلاد الأصليين، والذين يدينون بالولاء للحكام، ويعرفون طريقهم لحل مشكلاتهم عبر طرق تقليدية ليس منها الانتخابات أو المجالس النيابية.

توجد مشكلات بالطبع؛ منها الخلل الحاد في التركيبة السكانية، وشعور قطاع من السكان المحافظين بضياع الهوية الثقافية والاجتماعية والضغوط على منظومة القيم بسبب ارتفاع عدد الوافدين ليصبح أكثر من أربعة أضعاف المواطنين.

يجب عدم الاستهانة أيضاً بمعدل البطالة بين المواطنين، الذين يرون بلدهم يمنح وظائف لأبناء أكثر من 190 جنسية، ولا بالفقر النسبي لبعض سكان الإمارات الشمالية، فضلاً عن شعورهم بالتهميش الاجتماعي والوظيفي والسياسي، إضافة إلى غموض آلية اتخاذ القرار، وعدم خضوع السياسات العامة لأي قدر من المحاسبة أو التقييم، وضيق الهوامش التي يتحرك فيها الإعلام، وبعض التحفظ عن السياسات الخارجية والداخلية التي تبدو أحياناً أكثر جرأة من المعتاد أو المطلوب.

لكن تلك المشكلات التي سبق ذكرها لم توفر أي ذرائع كافية في أي وقت من الأوقات لإنتاج حالة من حالات المعارضة المنظمة أو الشكوى المستديمة، فقد ظلت عوائد النفط والأنشطة الاقتصادية الأخرى قادرة على إدراك الرخاء وسد الثغرات التي تنشأ أحياناً بسبب سوء توزيع الموارد أو هدرها.

لذلك يمكن القول إنه من الصعب وجود طلب على الديمقراطية في هذا البلد، فبوصفها طريقة لإدارة موارد تقل عن حاجات المجتمع، أو وسيلة لمعادلة الضرائب المدفوعة من المواطنين بتمثيلهم  بالمجالس النيابية، أو آلية لحسم الخلافات على شرعية الحكم، لا تجد الديمقراطية طريقاً في الإمارات، التي يتمتع حكامها بشرعية لا منازع عليها، ولا تفرض على مواطنيها ضرائب على الدخل، كما أنها تمتلك موارد تفوق بوضوح حاجة أبنائها حتى في أوقات الأزمات.

فلماذا زاد الطلب على الديمقراطية خلال انتخابات 2011 مقارنة بما جرى في 2006، كما ظهر في الرغبة في الترشح والمنافسة وأنشطة الدعاية والشكاوى من عدم الاختيار ضمن قاعدة الناخبين، فضلاً عن عدم توسيع تلك القاعدة لتشمل المواطنين المؤهلين جميعاً؟ ولماذا تبلور ذلك الطلب في صورة عريضة رفعها أكثر من 150 من المواطنين المثقفين الناشطين بتوسيع المشاركة السياسية، إلى رئيس الدولة في مارس الماضي، ووجه بعضهم انتقادات علنية نادرة حادة عبر وسائل الإعلام العالمية إلى الحكومة، ملمحاً باتهامات بالفساد وسوء الإدارة، الأمر الذي واجهته الحكومة باعتقال خمسة منهم، تجري محاكمتهم حالياً؟

لا شك أن السبب لا يعود فقط إلى المشكلات التي سبقت الإشارة إليها سابقا، ولكنه يعود أساساً إلى ما يمكن تسميته بـ"تداعيات الربيع العربي"، حيث نجحت الثورات في إطاحة أنظمة تونس ومصر وليبيا، وزعزعة نظامي سورية واليمن، وإرباك حكومة البحرين، وإثارة القلق لدى حكومتي السعودية وعمان.

من الواضح أن المجهود الرئيس لـ"الربيع العربي" كان في الدول ذات نظم الحكم الجمهوري، لكنه ألقى بظلاله أيضاً على بعض الدول ذات الحكم الملكي.

ستكون الإمارات قادرة على الاستجابة لطموحات بعض أبنائها الراغبين في توسيع المشاركة السياسية مهما قل عددهم مقارنة بمئات الآلاف من المؤيدين؛ بالنظر إلى كون الحكومة هي التي دعت للانتخابات وعمدت إلى تطويرها وتوسيعها تدريجياً، لكنها، مثل غيرها من دول الخليج العربية، ستحتاج أيضاً إلى تطوير بعض السياسات التي من شأنها تعزيز المشاركة المجتمعية عبر توسيع حرية الإعلام، ومحاربة الفساد، وتعميق تكافؤ الفرص بين أبناء الإمارات كلها، وإخضاع القرارات الحكومية لقدر من المراجعة والمساءلة والتقويم، وأخيراً المزيد من الشفافية والتواصل مع الراضين والمحتجين، بعيداً عن الاعتقالات والمحاكمات.

* كاتب مصري