الليبرالية الاجتماعية... من رآها؟
تسخن أجواء الانتخابات في أي ديمقراطية حقيقية بالحوارات المكثفة حول فلسفة ومنهج وبرامج الأحزاب، أما في ديمقراطيتنا الهرمة التي تعود بنا إلى القرن الثامن عشر، فلا نزال نختزل الصراع والجدل حول شخصية المرشح وشعاراته الهلامية المبعثرة الفضفاضة التي لا تغني ولا تسمن من جوع... فبدلاً من أن نأتي بأحزاب منظمة تعمل على الدفع ببرامجها السياسية والاقتصادية والاجتماعية الواضحة، نأتي بخمسين برنامجاً لخمسين نائباً يبيعون الوهم لناخبيهم بالرغم من إدراكهم استحالة الوفاء بما وعدوا به وقت الانتخابات، فالأحزاب السياسية هي عمود الديمقراطية وبدونها تشل القدم التي تحرك المجتمعات وتدفع بالتنمية إلى الأمام. إن غياب قانون ينظم الأحزاب، بالإضافة إلى غياب مفهوم تداول السلطة، خلقا فوضى سياسية وضجيجاً وشعارات لا نعرف أن نميز منها اليمين من اليسار، وهي المصطلحات التي تستخدم لوصف فكر ومنهجية المرشحين أو الأحزاب. فالطيف السياسي في المجتمعات يتفاوت من اليمين الذي يريد أن يحافظ على التقاليد السائدة إلى اليسار الذي يؤيد التغيير والعدالة الاجتماعية... فعلى سبيل المثال تأتي الفاشية والنازية والقومية الشوفينية والأحزاب الدينية المتطرفة والنيوليبرالية (الرأسمالية المتوحشة) في أقصى اليمين، بينما تستقر الشيوعية الشمولية في أقصى اليسار، أما في وسط اليسار فتأتي قيم الليبرالية الاجتماعية والديمقراطية الاشتراكية كالديمقراطيات الاجتماعية في أوروبا والحزب الليبرالي في أميركا. وتغيب وسط الضجيج قيم الليبرالية الاجتماعية التي ترتكز على الحرية والعدالة الاجتماعية، ذلك المفهوم الآخذ في الرواج يعتبر اليوم سبب استقرار وازدهار الدول المتقدمة، فقد جاء كطريق وسط ليعالج اختلالات تطرف الرأسمالية المطلقة التي لا تسمح بتدخل الدولة في الاقتصاد (والتي وسعت الهوة بين الأغنياء والفقراء)، وتطرف الاشتراكية المطلقة التي تتدخل بشكل مطلق في الاقتصاد (والتي انهارت وبادت)، ليوازن هذا الطريق الثالث الذي يسمى "بالاقتصاد المشترك" بين تنافسية وإنتاجية القطاع الخاص وتدخل الدولة لتوفير العدالة الاجتماعية ودعم حقوق الطبقة العاملة والمعونات الاجتماعية. وتتطرق أستاذة العلوم السياسية في جامعة كولومبيا شيري بيرمان في كتابها "أولوية السياسة الديمقراطية الاشتراكية وصياغة وجه أوروبا في القرن العشرين" لسبب الاستقرار والرفاهية المدهشة التي شهدتها أوروبا، لاسيما الدول الإسكندنافية، بعد الحرب العالمية الثانية لستين سنة، لتؤكد أنها الديمقراطية الاجتماعية التي صالحت بين قيم الرأسمالية والعدالة الاجتماعية. لقد تخلى الكثير من الأحزاب الليبرالية في أوروبا عن قيمه المطلقة كما تخلت الأحزاب الاشتراكية عن ماركسيتها فتصالحت واندمجت والتقت في الطريق الوسط، ونجحت لأنها وعت مطالب الفئات المهمشة والطبقة الوسطى، وسعت إلى تحقيقها على أرض الواقع. أين نحن مما يحدث حولنا؟ لماذا وقف بنا الزمن عند الشعارات البالية والأيديولوجيات الحتمية المنغلقة؟ لماذا نظل نلوك النظريات الكلاسيكية التي سقطت؟ ولماذا عجزنا عن استيعاب دروس التاريخ؟ وأين نحن من الفكر الليبرالي الاجتماعي الذي تتبناه الديمقراطيات المتقدمة؟ وكيف يمكن تطبيقه ونحن نطبق ديمقراطية غير ليبرالية لا تحترم فيها الحقوق والحريات وهما محور الديمقراطية وجوهرها؟ بل وكيف تستقيم الديمقراطية في ظل هذا النظام الريعي الذي يعرقل تطورها؟ لقد ساهم غياب الأحزاب في قصور الوعي السياسي، فطغت القيم الطائفية والقبلية وبرزت التوجهات الشوفينية والتيارات الشعبوية.