ينكفئ الأمل ويتقلص التفاؤل حذراً من قادم الأيام بعدما انتشت النفوس بأريج "الربيع العربي" الذي جعلنا نتخيل مدن الكرامة والإنسان وهي تحتضننا، وتقدم لنا الطمأنينة والضمانة على وجودنا وعلى مستقبل أجيالنا... وتعدنا بإقامة حضارية في ربوعها يكون فيها الإنسان المحور والعنوان.

Ad

بعد القفر والتشقق الذي خلفه الاستبداد في النفس والبنيان، وهذا الانكفاء مصدره إفرازات الصناديق التي قد تأتي بداية معاكسة لبعض الاتجاهات، بل أحياناً خارج السياق المدني والعقدي للدولة والمجتمع، مما يفسر القلق من تسرب الإحباط على تجربة وثقافة قد نجحت في كثير من الدول ولم تنضج لدينا بعد.

التحول في أي مجال له مزايا وعليه أثمان، وقد تكون مؤلمة أحياناً حسب طبيعة الأشياء، ولكنها مقدمة لابد منها لإتمام التحول وتثبيت مرتكزاته، وإلا فالخوف وما يعنيه وما يفرزه سيكون البديل عن التحول الديمقراطي الوليد في ربوعنا العربية الذي أجمعت الشعوب على تبنيه للتخلص من ركام الاستبداد، وقدمت الدم كدفعة أولى من ثمنه الباهظ.  الشعوب لم يدر في خلدها، وهي تعبر الممر الحضاري، أن يفرز هذا الصندوق بعض التقيحات التكفيرية والإقصائية التي كانت فيما مضى ألد أعدائه؛ لأن تكوينها كان خارج الرحم وخارج الإطار المدني والقيمي للدولة والمجتمع، ولكنها استدارت على فلسفتها العدائية عندما رأت في الديمقراطية فرصة ذهبية للنيل من مدنية الدولة، والعمل على إلحاقها بركب التعصب والتكفير، ناهيك عن اعتبار أنفسهم الجهة الحصرية لإصدار صكوك الغفران لمن يختارهم مع ضمانة المصير البائس لمن يعاكسهم؛ مستغلين ضعف البنى الأمنية والرقابية على هذا السلوك بعد التحول والولادة الجديدة، إضافة إلى الإفادة من العاطفة الدينية لدى الشعوب التي تعرضت للمس إبان الاستبداد "باسم مكافحة الإرهاب"، والتي جاءت قيمة مضافة إلى التيار الديني.

التيار الإسلامي مكون أساسي في المجتمع، وعانى كغيره من قوى التغيير بالمجتمع الإقصاء والتهميش، وصعود أسهمه في صناديق "الربيع العربي" كان متوقعاً نتيجة كما ذكرنا للعاطفة والإقصاء، إضافة- للأسف- إلى احتساب نقاط نظم الاستبداد المطرودة من الشارع ظلماً على التيارات القومية والليبرالية، والتي هي منها براء؛ لأنها عانت أكثر من غيرها بسبب سلوكها المدمر.

لكن لا خوف من نتائج الصناديق لأننا احتكمنا جميعا إليها، وعلينا القبول بنتائجها مهما كانت، لأن الممارسة الديمقراطية ليست إجراءً بل ثقافة ومسؤولية، ومعها ستزول تدريجاً آثار الاستبداد وسيرتفع مستوى الوعي و"يتعقلن" الاختيار، وكلما ازداد نوعاً ازداد جودة واستقرت معه الدولة المدنية، وانكفأت أدوات الإلغاء والتكفير إلى درجة الذوبان بالمواطنة الضامنة لحقوق الجميع.