هل ستحقق الثورات العربية الحداثة السياسية؟

نشر في 12-10-2011
آخر تحديث 12-10-2011 | 00:01
No Image Caption
 د. شاكر النابلسي - 1 -

لم يتحقق الأمل في حداثة سياسية عربية، منذ الاستقلال في نهاية النصف الأول وبداية النصف الثاني من القرن العشرين، فقد كانت الآمال معقودة على الدولة الوطنية الجديدة بعد الاستقلال، ولكن هذه الآمال خابت، ولم تتحقق الحداثة السياسية، التي كانت أهم أهداف الاستقلال، بل إن ما تحقق هو عكس ذلك، فالأدبيات السياسية العربية تبيّن لنا بوضوح وجلاء، أن العالم العربي قبل الاستقلال ورحيل الاستعمار البريطاني، والفرنسي، والإيطالي، من العالم العربي، كان على عتبة الحداثة السياسية التي كان أبرز معالمها:

- قطيعة العقل مع النقل.

- تفكيك القيم التقليدية دون تجاوزها.

- قيام دولة عصرية، وتقنية عصرية، وفنون وأدب عصريين.

- قيام علاقات بين عصر جديد وعصور قديمة.

- 2 -

يبدو أن كلمة "حديث Modern" استُعملت لأول مرة في القرن الخامس الميلادي للتمييز بين عنصرين: أولهما الروماني الوثني، وثانيهما الحاضر المسيحي المعترف به رسمياً. في حين يقول جان ماري دوميناك أن كلمة "حديث" ظهرت لأول مرة في التاريخ الأوروبي في القرن الرابع عشر، وأن مفهوم "الحداثة" لم يبرز إلا في عام 1850 على يد شارل بودلير، وجيرار دونرفال.

إلا أن بعض الباحثين يؤكدون أن مصطلح "الحداثة" ظهر لأول مرة في أوروبا في إحدى المجلات اللاهوتية في عام 1892، وأن أول ظهور لهذا المصطلح كان في وثيقة كنسية، في عام 1905 في "رسالة الأساقفة الوعظية المسيحية الجامعة لشمال إيطاليا".

ويُعتبر الشاعر الفرنسي شارل بودلير (1821-1876 ) أبو الحداثة الشعرية في أوروبا، ويشارك الشاعر مالارميه (1842-1898) بودلير في ريادة الحداثة في فرنسا، وعلينا أن نعلم أن الحداثة الشعرية الفرنسية في هذه الفترة لم تُستمد من التراث الفرنسي، وإنما استُمدت إلى حد كبير من الشعر الأميركي الحديث الذي كان يقوده (Poe) ألن إدغار بو (1849-1809).

ولكن فريقاً آخر يرى، أن (Rimbaud) رامبو (1854-1891) هو شاعر الحداثة الأول في أوروبا، أما "الموسوعة الشاملة"، فترد نشوء الحداثة الأوروبية إلى عام 1789، وهو العام الذي قامت فيه الثورة الفرنسية، إلا أنها لم تأخذ معناها الكامل إلا في القرن التاسع عشر، بحيث أصبحت عملية أيديولوجية واسعة، فالحداثة في نهاية القرن التاسع عشر، أصبحت نزعة للتغيير.

- 3 -

ويعتبر بعض الباحثين العرب، أن طه حسين، هو أبو الحداثة العربية، في النقد، والتربية، والتعليم، والثقافة، وجاء هذا الاعتبار، استناداً إلى أن طه حسين قد فتح فتحاً جديداً، في كتابة التاريخ الإسلامي، حين "أدرج القصص الإسلامية في إطار تاريخ الأساطير". كما عُدَّ طه حسين "أبا الحداثة" العربية في القرن العشرين، من حيث إنه كان ينطلق من جماع تجربته الفكرية التي ضمّت في ثناياها من عناصر الحداثة ما لا يكاد يدركها الإحصاء. وكانت رؤيته الحداثية تتضمن الفعل السياسي، والوعي التاريخي، والرؤية النقدية بتطبيقاتها الأدبية، والمنهج التربوي الحضاري، ومطالبة طه حسين بتطوير الدولة، وطبيعتها ووظيفتها في الثلاثينات، وأن العقلانية كانت منهاجه النقدي.

فقد كانت- ومازالت- العقلانية في الفكر العربي المعاصر، مستهجنة، ومستنكرة، كذلك، فإن العقلانية الانتقائية (التوفيق بين الفلسفة والدين) والمحتشِمة التي نشرها المعتزلة، أصبحت مستنكرة في المجتمع العربي المعطَّل تاريخياً، والمصاب بثالوث التأخر: تأخر وسائل الإنتاج، وتأخر نمو الطبقات، وتأخر الثورة.

فكانت الحداثة تعني لطه حسين بحثه المستمر عن العقلانية، ولم يكن يفصل بين النظر والفعل، أو بين الفكر والواقع.

- 4 -

إن الحداثة دعوة شمولية، لا تقتصر على جانب معين من جوانب الحياة، وهي دعوة شمولية كذلك لاكتشاف المجهول، وبالتالي فإنها ليست قراراً سياسياً، بل هي رد فعل، لا يأتي من الداخل، بقدر ما يأتي نتيجة صدام الداخل مع الخارج، ونتيجة للتفاعل الحضاري. كما أن الحداثة وصف لحالة وتركيب المجتمع، وهي حركة صراع داخل هذا المجتمع، ومن هنا، يمكن وصفها، بأنها موقف من الإنسان، وأنها منطق جديد وثورية لرؤية العالم، واقتحام السائد في عقر داره.

- 5 -

يشير بعض الباحثين إلى أن الحداثة في الثقافة العربية "نشأت في ظل الإسلام والحضارة الإسلامية، وبسبب من روح الإسلام المنفتحة". وما تحديث الإسلام الآن إلا عملية إبعاد السلطة الدينية عن روح الإسلام، حتى تسود الحداثة الحياة العربية من جديد.

والحداثة، لا تأتي ضمن مشروع ما، بقدر ما تأتي استجابة للحاجة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.

فالحداثة لا قرار فيها لأحد، إنها قرار الحياة الشامل، فهي إذن، استجابة للحياة، ومتطلباتها، وضرورات العيش فيها، وقد يكون هناك شعب يعيش في العصر الحاضر، ولكنه ليس بحاجة إلى الحداثة؛ أي أن طبيعة الحياة والفترة التاريخية والاجتماعية التي يحياها، لا تتطلب ثورة حداثية في الاجتماع، والاقتصاد، والتعليم، والسياسة، وأن دعوات الحداثة التي تنشأ بين صفوف مثل هذه الشعوب، لا تتعدى أن تكون حركات فردية تقوم بها مجموعة محدودة من الشعراء، والكتاب، فتأتي هذه الحداثة مخالفة لتيار الحياة العامة التقليدي المحافظ، وتظهر كالرقعة الغريبة الناشزة في الثوب، غير متداخلة في نسيج الحياة العامة، ذات خيوط نافرة وألوان فاقعة.

وقد دعا هذه الحالة المؤرخ اللبناني-البريطاني ألبرت حوراني (1915-1993) بـ"التشرُّق Levantine"، ودعا الفرد بـ"المُتشرِّق"، وهو الفرد الذي يعيش في الوقت نفسه في عالمين أو أكثر، دون أن ينتمي إلى أي منهما، ويتمكن من تلبُّس الأشكال الخارجية للعوالم، دون أن يملكها بالفعل، وليس لهذا الفرد قيمة، ولا هو قادر على الخلق، إنما هو مقلد ومُحاكٍ فقط، فلا هو بالسلفي، الذي "فكر في الإصلاح والتحرير بعقل ينتمي إلى الماضي العربي الإسلامي، ويتحرك ضمن إشكاليته، ولا هو بالليبرالي، الذي بشَّر بالنهضة والتقدم بواسطة مركّبات ذهنية، واستطاع تخريج الرجل العربي العصري، ولنا من بعض الشعوب العربية خير مثال على ذلك.

(وللموضوع صلة).

* كاتب أردني

back to top