إلى أين المصير؟
كل ما يحدث حولنا من هلع وفزع بعد الأزمات الطاحنة التي نمر بها واحدة تلو الأخرى هو في الواقع خوف حقيقي من كابوس المستقبل المجهول، ذلك المستقبل الذي انشغل به الغرب منذ زمن حتى أصبح استشراف المستقبل أو المستقبليات علماً له أسس وضوابط وأدوات قياس، لذا يدخل العالم من حولنا إلى تواريخ جديدة بينما يعود بنا التاريخ القهقرى، لنتعامل مع أزمات اللحظة الراهنة وصدماتها بشكل عشوائي ارتجالي بدائي، فكل أفعالنا هي ردود أفعال طارئة مهدرة بانشغالها بالعوارض المزمنة عن الأسباب الحقيقية للمرض، ذلك أن استقراء المستقبل في أوطاننا هو وظيفة العرافين والمشعوذين.لا يعني ذلك أن الدول المتقدمة لا تواجه أزمات، ولكنها تضع سيناريوهات وحلولاً مرنة في التعامل مع تحديات المستقبل ومخاطره وفرصه. لذا يهتم علم المستقبليات بالتاريخ وقوانينه والحاضر وإمكانياته لتفادي الأخطاء والسلبيات لإدارة المستقبل بأفضل شكل ممكن. وما لم نمتلك أدوات القراءة النقدية للتاريخ وتجاربه الفاشلة والناجحة لن نمتلك الوعي بتحولات الزمن الحاضر، وبالتالي لن نتمكن من الدخول إلى المستقبل.
يتجلى إخفاقنا في استشراف المستقبل في اعتلال ديمقراطيتنا التي نرى ضرورة إعادتها لمتحف القرن الخامس عشر، ذلك أننا لم نعمل على استكمال شروطها. يحدد المفكر مراد وهبة، استناداً إلى دراسة تاريخية لنشأة الديمقراطية، أربعة شروط للديمقراطية إن لم تتوافر يغدُ النظام الديمقراطي مسخاً مشوهاً، وهي العلمانية والعقد الاجتماعي والتنوير والليبرالية. فتأسيس الديمقراطية مر بمراحل تاريخية تراكمية تكاملية بدأت بثورة كوبرنيكوس التي زعزعت فكرة امتلاك الحقيقة المطلقة في إعلانه أن الأرض ليست مركز الكون، الأمر الذي مهد الطريق في القرن السادس عشر لظهور العلمانية ودعوتها إلى التفكير النسبي «بما هو نسبي وليس بما هو مطلق»، لتتأسس نظرية العقد الاجتماعي حول حقوق الإنسان وتوازن العلاقة بين الحاكم والمحكوم في القرن السابع عشر، ويأتي التنوير في القرن الثامن عشر كردة فعل طبيعية لظهور العلمانية والعقد الاجتماعي، لتنضج في القرن التاسع عشر شروط الديمقراطية عبر القيم الليبرالية كالتسامح والحريات الفردية والجماعية.فما العمل حين يصطدم نظامنا الديمقراطي مع تلك الشروط الأربعة، الأمر الذي يعوق قضايا الإصلاح الشامل ويقودنا إلى الانتحار البطيء؟ وكيف السبيل لرعاية ديمقراطيتنا، التي لم تبلغ سن الرشد، حتى تكبر وتنضج وتتحرر من الوصايا وتحد من تدخل الدولة في حريات أفرادها؟ وكيف نؤسس لعقد اجتماعي يكون فيه الشعب صدقاً مصدر السلطات جميعاً، ويكون فيه تداول سلمي للسلطة في ظل غياب حتى تداول السلطة للسلطة؟ وما الحل لصناعة ثقافة ديمقراطية وقوانين ديمقراطية؟ وكيف نفتح أبوابها الموصدة كي تعالج نفسها بنفسها لتنتشلنا من مستنقع القوانين الفاسدة دستورياً؟ وما مصير مستقبلنا إن لم يمض مجتمعنا قدماً باتجاه التطور الطبيعي للإمارة الدستورية، حتى لا «تضطر» حكوماتنا التي لا تتشكل من أغلبية نيابية إلى كسب الأغلبية النيابية بشراء الولاءات والصفقات السياسية؟ هل يمكن تجاوز هذا الانسداد السياسي دون إرادة وإدارة، واستشراف المستقبل والقدرة على صناعة المصير؟ أم أننا سنواصل المسير «في ظلمة الدرب العسير»؟