يستحق يوم أول أمس اسم "جمعة الفتنة" بامتياز؛ فللمرة الأولى منذ اندلاع ثورة 25 يناير في مصر، يحاول متظاهرون غاضبون اقتحام المنطقة التي يقع فيها مقر وزارة الدفاع، بضاحية مصر الجديدة، شرق القاهرة، وهو ما اضطر الجيش إلى إغلاق الطريق في وجههم، وإطلاق النار في الهواء لتفريقهم.

Ad

لم يكن هذا هو التحرش الوحيد بالقوات المسلحة في ذلك اليوم؛ إذ توجه متظاهرون في الإسكندرية شمال البلاد إلى مقر المنطقة العسكرية الشمالية، منددين بما وصفوه بـ"تباطؤ محاكمات قادة النظام السابق"، ومطالبين بتسريع تحقيق أهداف الثورة، والقصاص من "قتلة الشهداء"، وقد نجم عن تلك المحاولة أيضاً إطلاق الجيش النار في الهواء، كما وقعت مشاجرات بين المتظاهرين وآخرين وصفوا بأنهم "بلطجية"، وأدت إلى إصابة تسعة أشخاص.

وفي محافظة السويس شرقي البلاد، كانت القوات المسلحة تحاول احتواء تظاهرات أخرى أكثر سخونة، لكنها لم تنجح في منع تفاقم الأوضاع، حيث حاول متظاهرون اقتحام فرع جهاز الأمن الوطني (وريث مباحث أمن الدولة المنحلة)، بعد مهاجمته بزجاجات "المولوتوف" الحارقة.

وحين حاول مصطافون قاهريون الرجوع إلى بيوتهم بعد قضاء عطلة نهاية الأسبوع في مدينة الإسماعيلية الساحلية شرقي العاصمة أصيبوا بهلع شديد؛ إذ كان عدد من الصيادين قطعوا الطريق، وأجبروهم على الرجوع، لأن القوات المسلحة ألقت القبض قبل أيام على 12 من زملائهم، لانتهاكهم القانون وقيامهم بالصيد في المجرى الملاحي لقناة السويس.

تنذر التطورات الأخيرة التي شهدتها مصر في الجمعة الفائتة بمخاطر كبيرة، لعلها الأكثر جدية على الأوضاع العامة في هذا البلد منذ ثورة 25 يناير، ذلك أنها اقتربت كثيراً هذه المرة من استدراج الجيش إلى صراعات شوارع كتلك التي خاضتها الشرطة قبل ذلك، ومنيت فيها بهزيمة ساحقة، رغم كونها أكثر عدداً وجاهزية لمثل تلك الصراعات.

يبقى الجيش آخر عمود قائم يمكن الاستناد إليه والتعويل عليه في الدولة المصرية بعد انهيار النظام السابق، ورغم المآخذ على الأداء السياسي للمجلس الأعلى للقوات المسلحة حيال مطالب ثورة يناير، فإن جر الجيش إلى نزاع شوارع أو زعزعة هيبته يمكن أن يؤدي بالبلاد إلى كارثة حقيقية.

على مدى الأسابيع الثلاثة الفائتة، ردد متظاهرون في أكثر من ميدان من ميادين التظاهر عبارات منددة بتصرفات المجلس العسكري، كما هتف الآلاف بهتافات من نوع "الشعب يريد إسقاط المشير"، أو "يا مشير قل الحق... انت معنا ولا لأ".

لم يقدم المتظاهرون الغاضبون رؤية واضحة للأوضاع في حال "إسقاط المشير" أو تخلي الجيش عن دوره الذي ألزم نفسه به، وباركته الثورة، والذي حدده بوضوح في قيادة البلاد خلال الفترة الانتقالية، تمهيداً لتسليم القياد إلى سلطة مدنية منتخبة.

البعض ينادي بـ"مجلس رئاسي مدني" أو "مجلس رئاسي يضم مدنيين وعسكريين"، وقد دعا ناشطون في ميدان التحرير إلى إعلان "مجلس رئاسي بالفعل"، وهو ما يعني فعلياً خلق سلطة موازية لسلطة الجيش، لكن هذه الدعوات لا تحظى بتوافق حتى الآن، ولا يمكن اعتبارها طرحاً مقبولاً حتى هذه اللحظة.

يحظى الجيش، مع ذلك، ورغم انتقادات أخرى عديدة من جانب قوى سياسية مختلفة، بقدر من الاحترام والقبول لدوره المسؤول في تلك اللحظة الفارقة التي تمر بها البلاد.

لكن السياسة التي تبناها منذ اضطلاعه بالأمور، والرامية إلى "استهلاك الوقت" من دون اتخاذ قرارات صعبة، لحين الوصول إلى الانتخابات، وتسليم البلاد إلى سلطة مدنية منتخبة، أدت به إلى محاولة إرضاء كل القوى الفاعلة في وقت واحد، وهو أمر شديد الصعوبة.

في البداية، سعى الجيش إلى إرضاء "الإخوان المسلمين" وغيرهم من ناشطي الجماعات الإسلامية، باعتبار "الإخوان" أهم تنظيم سياسي متمركز تمركزاً جيداً في أعماق البلاد من جهة، ولأن المصريين البسطاء عادة ما يتخذون "قادة طبيعيين" من علماء الدين، خصوصاً في الريف والأقاليم من جهة أخرى، ويمنحونهم الثقة وأحياناً الطاعة.

لكن رد فعل القوى اليسارية والقومية والعلمانية والليبرالية والأحزاب القديمة والنخب والإعلام كان قوياً بما يكفي لكي يوازن الجيش الأمور قليلاً.

وحين مالت الأوضاع في الاتجاه العكسي، واختار الجيش حلاً وسطاً لأزمة "الدستور أم الانتخابات"، عبر الإعلان عن وضع "وثيقة حاكمة" يبدو أنها جاءت لتضمن مدنية الدولة الجديدة بحسب مطالب القوى غير المنتمية إلى التيار الإسلامي، سارع الإسلاميون إلى الضغط والاحتجاج الصارم، بل وأخيراً لوحوا باستخدام القوة.

ليس الإسلاميون فقط هم من لوحوا باستخدام القوة، أو "وضع رقابنا ودمائنا" بحسب تعبير المرشح الإسلامي حازم صلاح أبوإسماعيل، ضد محاولات صياغة "قيم فوق دستورية" يمكن أن تلجم "المد الإسلاموي"، لكن بعض الجماعات الليبرالية واليسارية المتشددة أيضاً عبرت كثيراً عن استعدادها للذهاب إلى "آخر مدى" في حال تمت "سرقة الثورة أو تفريغها من مضمونها".

الجيش نفسه اتهم بوضوح جماعة "6 أبريل" بمحاولة إحداث وقيعه بينه وبين الشعب، من دون أن يقدم أدلة وبراهين واضحة على ذلك. لكن قطاعاً في النخبة وقوى الثورة يدرك تماماً أن ثمة محاولات بالفعل لإحداث الوقيعة، غير أنه يعزوها إلى ما يسمى

بـ"فلول النظام الساقط"، باعتبار أن لدى تلك "الفلول" رغبة في تفجير البلد وكبح الثورة وإعادة إنتاج الأوضاع القديمة عبر الفوضى، أو على الأقل إحداث فتنة تعصم عناصر النظام السابق من المحاكمات والملاحقات.

لا يواجه الجيش المصري الآن تحديات جسيمة مثل تلك التي واجهها كثيراً في تاريخه العريق، وكان آخرها حرب يونيو 1967، ولا يمر بمنعطف تاريخي خطير كذلك الذي مر به في الأيام الأخيرة من يناير والأولى من فبراير الماضيين، لكنه مع ذلك يواجه "اختبار أعصاب"، ومحاولات لإحداث الوقيعة بينه وبين الشعب.

سيتمكن الجيش المصري من عبور تلك "الفتنة" إذا حافظ على ضبط النفس إلى أقصى درجة، وإذا ترك أفكار "استهلاك الوقت"، أو "بقاء الأوضاع على ما هي عليه"، أو "التهاون في محاسبة قيادات النظام السابق"، أو "التقاعس عن تنفيذ مطالب الثورة الواضحة المتفق عليها".

وكلما استطاع الجيش البرهنة على ضبط النفس وتنفيذ مطالب الثورة المشروعة والمتوافق عليها بأقصى سرعة ممكنة، زاد الرأي العام الشعبي المساند والمؤيد لدوره وسياساته، وبالتالي أمكنه تخطي الصعاب الراهنة وتفادي الفتن المتتالية وتحقيق هدفه الواضح في قيادة فترة الانتقال الديمقراطي، وتسليم السلطة إلى حكومة ورئيس منتخبين، قبل العودة إلى ثكناته وأدواره التقليدية، مكللاً بالمجد والعرفان.

* كاتب مصري