كفى بالموت شافياً
رداً على مقال د. ابتهال عبدالعزيز الخطيب: "أبطال من ورق":
عبرت الصديقة الدكتورة د. ابتهال الخطيب من خلال مقالها الأسبوعي، عن استنكارها لما آل إليه مصير الطاغية القذافي من قتل مروّع، ظهرت فيه نزعات التشفي واضحة وصارخة، والمتأمل في هذا الرأي قد يفهم دوافع أولئك المنخرطين في أنشطة جمعيات حقوق الإنسان، وضرورة التزامهم بما تمليه عليهم منظومة القيم الإنسانية والحقوقية التي آمنوا بها واعتنقوها، بل ضرورة تمثيلها في كل موقف ومحفل، حتى إزاء قضايا تتعلق بأعتى البشر طغياناً ووحشية، وأكثرهم امتهاناً واحتقاراً لشعوبهم!كنتُ أتمنى من العزيزة ابتهال في هذا الوقت بالذات، حيث قلوب الليبيين لا تزال تتنزى بما لا يوصف من مرارات وخيبات وانتهاك يومي لأرواحهم وكراماتهم، وحيث جروحهم لا تزال طرية تنوء تحتها نفوس مخرَّبة وعمر مسفوح وتاريخ مظلم، أقول كنتُ أتمنى لو نزلت الكاتبة قليلاً من مقعدها الوثير في جمعية حقوق الإنسان، وعاشت لحظات على أرض الواقع والتفتت حولها إلى أوجاع سبعة ملايين ليبي، سحلهم (المغدور!) عبر بحر الظلمات على مدى أربعة عقود من الزمان! أعتقد أن ما يفعله الناس في ليبيا ما هو إلا استجابة طبيعية جداً، واحتفالهم بنهاية الطاغية المعتوه ما هو إلا تعبير عن الذهول والصدمة وعدم التصديق بتحقق المعجزة و"انزياح" الكابوس. ومن هنا نرى تلك الكاميرات المتوترة واللقطات الفانتازية والصيحات الهستيرية المتحشرجة، بل نرى تلك الطوابير من الناس التي اصطفت لتشاهد بأم عينها القذافي ميتاً حقيقة لا خيالاً، فنهايته ربما لا تُصدق أو تُعقل في ضمير أولئك المستعبَدين بطول ظله وبقائه. لذا تأتي المشاهدة عياناً لتصبح أم الأدلة والبراهين على موته المحقق. إن قتل القذافي في لحظة القبض عليه وضَعَ نهاية حاسمة وفورية لعهد ما كان له أن ينتهي في يقين الناس وضمائرهم المتعبة لو طالت حياة المقبوض عليه، إذ ربما تستجد أمور أخرى، أو ربما تهب رياح السياسة بما لا تشتهي آمال الليبيين، أو ربما يطول أمد المحاكمات وتطول انتظارات المنتظرين لحكم العدالة... بل هناك صف لا ينتهي من "الرُبمات" القلقة التي لا يفهمها إلا من يده في النار لا من يده في الماء... و"كفى بالموت شافياً"- كما يقول الشاعر- للنفوس المكلومة والقلوب الموتورة.أما عهد الأحزان والتأمل في الخسائر والكلوم- كما تقترح الكاتبة- فآتٍ لا محالة، بيد أن الوضع يحتاج إلى المزيد من الوقت والصبر، مثله مثل أي حالة إنسانية دخلت في غيبوبة من هول الصدمة، ولا تزال ترقد في وحدة العناية المركزة، وحاجتها إلى الأمصال والتبرع بالدم والدعم المعنوي والفهم ماسة.لقد شاركنا جميعاً- يا عزيزتي- في السكوت والسلبية والتفكّه بسوءات "المغدور"!، اللهم إلا أضعف الإيمان من قول عابر ما إن تخطه آلة النشر حتى تمحوه بعد سويعات. كنا نضحك ونسخر ونتصيد النكات والمواقف الهزلية يؤديها باقتدار "أراجوز القرن"، ولكنه صدقيني كان ضحكاً كالبكاء! فكيف سنغفر لأنفسنا؟ وما هو أضعف الإيمان الآن في رأيك؟!أربعون عاماً مضت من عمر الليبيين، أجيال ذهبت وأجيال أتت، وعالمٌ دارت به الأفلاك وغيّرتْ وجهه المتغيرات، وليبيا مدفونة تحت ركامات السخف والعته ونزوات الجنون ونفايات العهود البائدة، يجرّهم معتوه وراءه من مغامرة إلى مغامرة، ومن ظلمة إلى قبر، ومن فقر إلى قمع، فكم يا ترى عدد الجرائم التي سيحاكم عليها القذافي؟ وكم أُهدِر وسيُهدَر من عمر الليبيين وهم ينتظرون؟!! هل لجمعية حقوق الإنسان إجابة شافية؟!