أوهام التآمر الخارجي معوق ثقافي

نشر في 14-11-2011
آخر تحديث 14-11-2011 | 00:01
No Image Caption
 د. عبدالحميد الأنصاري عودة إلى سلسلة المقالات حول أصل الداء وراء الإخفاق العربي المزمن الذي شخصه المفكر السعودي البليهي في ثقافة المجتمعات العربية باعتبارها العلة الأم في التخلف العام، وهي ثقافة تصوغ العقلية والنفسية الجمعية للعرب وتشكل نظرتهم للمجتمعات الأخرى، نتناول في هذا المقال معوقاً ثقافياً كان له أثر كبير في تعثر التنمية العربية، وهو الإيمان بأوهام التآمر الخارجي، وهي أوهام حاكمة للثقافة السياسية السائدة لدى النخب والرأي العام على حد سواء.

هناك ما يشبه اليقين لدى التيارات الدينية والقومية واليسارية بأن الغرب هو الذي عوّق نهضة العرب وقام بتفرقتهم وحال دون وحدتهم، وعلى هذه الصخرة الصماء أعني صخرة الارتياب بالآخر الغربي قامت ايديولوجيتان حاكمتان للحياة العربية:

1- ايديولوجية الفكر القومي القائمة على استيقاظ العرب واستنهاضهم لمواجهة مخططات الغرب التآمرية بدءاً بـ"وعد بلفور" وزير خارجية بريطانيا، الذي قلنا عنه: "أعطى من لا يملك من لا يستحق فلسطين". يقول عادل درويش: "إنه شعار شبت عليه الأجيال وألصقت ببريطانيا تهمة سلب فلسطين ومنحها لليهود وساهمت مناهج تعليمية على يد معلمين قرأوا نصف الآية: "ولا تقربوا الصلاة" فزرعوا في عقول الناشئة خرافة مسؤولية بريطانيا لا مسؤولية الدكتاتوريات العربية في رفض إعلان فلسطين المستقلة وشن الحروب"، وصولاً إلى أجيال تربت على وهم كبير قام بشحنه منظرو القومية في عقول الناشئة هو أن المستعمر رسم الحدود القطرية لمنع وحدة العرب. لذلك كانت السمة الغالبة على خطاب وأدبيات الفكر القومي لوم الغرب وتحميله مسؤولية الفرقة والتخلف، فالغرب شيطان متآمر زرع إسرائيل في قلب الوطن العربي، ورسم الحدود ليعرقل النهضة ويستديم التخلف مما اتخذه طغاة العرب، كصدام، ذريعة لاجتياح حدود جيرانه بزعم أنها حدود استعمارية، علماً بأن البحث التاريخي أكد أن هذه الحدود تاريخية قائمة من قبل مجيء المستعمر بأزمان طويلة ويكفي أن المؤرخ القومي الكبير د. عبدالعزيز الدوري فاجأ الحضور المشارك في ندوة "مشروع حضاري عربي" في مدينة فاس المغربية 2001 بقوله: "نتحدث عن مقومات الوحدة العربية ونفترض أنها كانت قائمة في التاريخ، وأن التجزئة وقعت بسبب الاستعمار، ننسى أن الوحدة السياسية لم تعرف في التاريخ العربي إلا في إطار مفهوم الأمة الإسلامية، وأن التجزئة تلت تلك الفترة، وأن مفهوم الأمة العربية لم يترسخ إلا في فترة التجزئة السياسية". كما يشير خليل حيدر عن -مشروع النهضة العربية- إلى أن مفكري القومية رفضوا الإقرار بشرعية الدولة القطرية وشرعنوا للانقلاب العسكري طريقاً للوحدة، فمهدوا الطريق لقيام الدكتاتوريات العربية التي قامت باغتيال مجتمعاتها وارتكبت أبشع الجرائم في حقوق شعوبها وتسببت في هزائم منكرة لأوطانها، وما قيام ثورات الربيع العربي إلا لمعالجة مآس وكوارث هذه الدكتاتوريات.

2- ايديولوجية الإسلام السياسي: المبنية على أبدية الصراع مع الغرب العدو الصليبي الحاقد على الإسلام والمتربص بالمسلمين، وهي ايديولوجية مسكونة بهواجس التآمر العالمي بدءاً بالتآمر على الخلافة العثمانية مروراً بـ"بروتوكولات صهيون" وإسقاط الخلافة على يد أتاتورك وصولاً إلى المؤامرة الأميركية الكبرى 11 سبتمبر ذريعة لاحتلال أفغانستان "أكد رمز إسلامي كبير في خطبة جمعة منقولة فضائياً أن أميركا تعلم يقيناً براءة الشيخ بن لادن لكنها تحشد للقضاء على المسلمين بدافع صليبي حاقد". وهم أيضاً يتهمون الأنظمة العربية القائمة بأنها صنائع الغرب تنفذ مخططاته فتنكل بالإسلاميين وتتخذهم فزاعة، كما يتهمون المثقفين الليبراليين بأنهم عملاء للغرب يسعون إلى تغريب المجتمعات العربية. يعيش خطاب الإسلام السياسي ويقتات على هواجس التآمر ويتغذى بأوهام الغزو الفكري والعولمة الخبيثة ويستمد شرعيته من زرع هذه الأوهام في نفوس الجماهير، وهو خطاب تعبوي غاضب متشنج لا يتسامح مع المثقف الذي يخالف الطرح السياسي للرمز الديني الذي يقدسه، يقف الخطيب الديني منتفشاً محرضاً: (انظروا كيف يذبح المسلمون في كشمير وأفغانستان والعراق! شاهدوا جرائم الأميركيين في العراق يريدون تقسيمها خدمة لإسرائيل!)، فهو لا يتكلم عن مسؤولياتنا تجاه ما يحصل في الساحة، لا يتحدث عن قصورنا في تربية أولادنا الأشقياء الذين عاثوا في الأرض فساداً وآذوا العالم! يحاول إقناعنا بأن الغرب وراء مصائبنا وكأننا أبرياء لا دور لنا ولم نستفز العالم بجرائم أبنائنا فأصبح يطاردهم ويتوجس من المسلمين!

القرآن الكريم يؤكد في العديد من الآيات أن مصائبنا بما كسبت أيدينا لا بسبب الآخرين "وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم"، ويحملنا مسؤولية تردي أوضاعنا "قل هو من عند أنفسكم"، ونحن المطالبون بتغيرها "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم"، إن تعاظم الإحساس بأننا أمة مستهدفة أشبه بضحية يتلاعب بها الأعداء الذين لا عمل لهم إلا تدبير المؤامرات ضدنا- يتساءل د. راشد المبارك المفكر السعودي: "أصحاب نظرية المؤامرة لم يسألوا أنفسهم: عن أي قرية في العالم الإسلامي أو مدينة أو دولة تمثل خطراً عسكرياً أو اقتصادياً أو سياسياً على الغرب؟!"- هو مرض مشترك بين الإسلاميين والقوميين واليساريين ومن عوارضه الجانبية: "تغييب منهج نقد الذات وعدم القدرة على الإفادة من دروس الفشل والإخفاق واستدامة الصراع والمواجهة على حساب معركة الإصلاح والبناء وشحن النفوس بالكراهية ضد الآخر الحضاري، وهكذا تستمر الأوضاع في ترد ويضعف الأمل في الإصلاح مادمنا ننسب المشكلات إلى غير أسبابها الحقيقية، فنعفي أنفسنا من المسؤولية ونحملها الآخرين".

قديماً، حمل المؤرخون العرب مسؤولية الفتنة الكبرى لليهودي ابن سبأ، واليوم تحمل الأنظمة القمعية في بلاد الربيع العربي مسؤولية تردي أوضاعها على الخارج تشويهاً لثورات شعوبها وتهرباً من استحقاقات الإصلاح، لا أمل في أي نهضة أو تنمية مادام هذا الفكر المسكون بهواجس التآمر مهيمناً على منابر الإعلام والتعليم.

يتناسى أصاحب الفكر التآمري أن بأسنا بيننا شديد من قبل ظهور أميركا وإسرائيل بزمن طويل في حروب وانقسامات وصراعات دموية، في الفتنة الكبرى قتل من صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم الكثير وقصف الأمويون مكة وصلبوا ابن الزبير واستباحوا المدينة والخوارج سلوا السيوف على المجتمع الراشدي، والعباسيون نكلوا بالأمويين شر تنكيل، والعثمانيون ارتكبوا آثاماً عظيمة، والدماء المسالة بيد المسلمين أكبر بكثير من المسالة بأيدي أعدائهم.

لن نستطيع التحرر من احتلال الفكر التآمري لعقولنا ونفوسنا إلا إذا تشجعنا وفعلنا منهج نقد الذات وراجعنا أوضاعنا وغيرنا طريقة تفكيرنا، علينا أن نثق بأنفسنا وثوابتنا كخطوة أولى لتحرير العقلية من هواجس التآمر والغزو والعولمة، فبالعولمة أصبح الخليج أقوى وحياته أرقى، وعلى مؤسساتنا التوجيهية والإعلامية تجاوز تلك الهواجس وتفنيد مقولة الغزو الثقافي.

نعم، هناك صراعات دولية وهناك أطماع كبيرة في منطقتنا لكن يحكمها منطق المصالح لا منطق التآمر، ترى ما الذي يفعله بك من يغزوك ثقافياً في عصر العولمة وثورة المعلومات؟! إنه يقدم لك كتاباً أو صحيفة أو فيلماً أو معلومة أو فكراً ورأياً، ولك أن ترفض أو تقبل فأنت صاحب القرار في النهاية، لا مبرر للفزع من الغزو الثقافي والعولمة في عصر سقطت فيه الحواجز ولا مسوغ لزرع الكراهية في نفوس أبنائنا تجاه الغرب وعسكرة مجتمعاتنا، لقد كان الأجدر بالغرب أن يخاف من غزونا لمجتمعاتهم عبر المراكز الإسلامية والدعاة الذين نشروا الإسلام في عقر دارهم، ومع ذلك هم واثقون من أنفسهم ولا يفزعون كفزعنا ولا تركبهم هواجس التآمر مثلنا، أوهام الغزو هي أوهام العجز والفشل وعدم الثقة بالنفس وبالثوابت، علينا أن ندرك أن بلاءنا يأتي من أعماقنا من الغزو المدمر الذي يستهدفنا من الداخل عبر فيروسات التطرف والتعصب والطائفية والقبلية وعدم قبول الآخر.

* كاتب قطري

back to top