حتى اليتيم ما سلم!
ليس من المبالغة القول إن الفساد، وبمختلف أشكاله وألوانه، قد تغلغل واستشرى عندنا حتى النخاع، بل تحول إلى حلبة للمنافسة والإبداع، وكأننا في ظل منافسة ترصد لها الجوائز والمكافآت.ومن الواضح جداً أن الثقافة المجتمعية وتآكل البنية الإدارية وتراكم الأخطاء في ظل فقدان الشعور بهيبة الدولة وسلطان القانون هي عوامل مشتركة لا يمكن أن تفرز سوى المشاكل والفضائح في مختلف القطاعات والمؤسسات والهيئات الحكومية، وبمجرد النبش حتى السطحي في أي مرفق عام تفوح الروائح الكريهة، ويكشف المستور.
وإدارة الحضانة العائلية في وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل اليوم هي "النومنيه" الأبرز في برنامج فسادي أكاديمي كويتي متجدد دوماً بفنون من الإبداعات والمهارات التي قد يعجز اللسان عن وصفها ولجان التحكيم عن تقييمها.وما يفطر القلب أن المعلومات والتسريبات المخزية حول دور رعاية الأطفال والأيتام بشقيها الولادي والبناتي، تختص بأضعف أنواع البشر، وهم من شريحة الأطفال الذين حرمهم القدر من الولي أو إهمال هذا الولي إن كان حياً، ليضمهم جناح الدولة بإمكاناتها الهائلة لعل وعسى أن يعوضوا عن بعض ما حرموا منه من الرعاية والتنشئة الصالحة والاستثمار فيهم كقيمة حقيقية للإنسان. وما يجرح المشاعر أكثر أن مثل هذه القطاعات كانت من اللبنات الأولى التي وضعت مع بدايات قيام دولة الاستقلال، وسبقت الكثير من الدول في إبراز الوجه الإنساني المشرق للكويت، فإذا بهذا التاريخ الناصع يتهاوى أمام سلسلة من ممارسات الرذيلة والفضائح المقززة، والأكثر من ذلك أن تواجه هذه العاصفة بصمت رسمي مريض كما هي العادة دائماً من قبل المسؤولين.وقد تكون هناك بعض المبالغات فيما يتسرب من أنباء ومعلومات في دور الأيتام، وقد تكون هناك صراعات وظيفية في الداخل، وقد تكون رؤوس بعض القياديين في وزارة الشؤون مستهدفة، ولكن هذا لا يعني بأي حال من الأحوال أن الأوضاع التي يعيشها أطفال الرعاية والأيتام وجلهم من المواطنين الكويتيين مأساوية بمعنى الكلمة.وعلى الرغم من توافر كم من المعلومات وشهادات الشهود من الموظفين والضحايا من النزلاء التي يجب التحقق منها بشكل دقيق، خاصة مع السوابق التي شهدها هذا القطاع في سنوات سابقة، وتم التصدي لها، فإن حالات انتحار الأطفال الصغار وإيداع بعضهم دون العشر سنوات في المصحات العقلية وهروب الفتيات من النزلاء وجرعات الأدوية المحظورة التي يرغمون على بلعها، والنتائج الفاشلة في التحصيل الدراسي لجميع أبناء الدور تقريباً هي محطات لا يمكن السكوت عنها.وعهدنا بالوزير العفاسي ألا يختار الطريق المختصر عبر إحالة هذا الملف إلى النيابة فقط لطي هذه الصفحة إبراءً للذمة وتحاشياً للمساءلة السياسية، فهذا الملف يتطلب البحث والتحقيق فيه أولاً داخل الوزارة، وبما يتطلب من رؤى اجتماعية ونفسية والإصلاح الجذري لهذا المرفق ما يحتاجه من كوادر متخصصة، وإعادة تأهيل شامل للعاملين والمشرفين فيه، ومن ثم التفكير بإحالته إلى جهات الاختصاص بكامل الأدلة للتحقيق والمحاسبة.