لا يقترب من روعة قراءة رواية جيدة سوى مشاهدة فيلم جيد، وقد كنت قلت منذ أيام إنه لا يماثل روعة الرواية الجيدة سوى الفيلم الجيد، وأظن أني اليوم سأتراجع عن استخدام كلمة "يماثل" لمصلحة كلمة "يقترب"، فبعد قراءة ومشاهدة عشرات الكتب والأفلام الجيدة وما هي دون ذلك، تولدت لدي فكرة، تكاد تقترب من الإيمان، بأن الفيلم، ومهما كان رائعاً وعبقرياً، فلن يماثل إبداع الرواية الرائعة والعبقرية التي قام عليها.

Ad

الرواية العبقرية الرائعة يستطيع المخرج المبدع أن يخرج منها بفيلم عبقري رائع أيضاً، ولكنه، أي الفيلم، سيظل دونها ولا شك، حتى إن اقترب منها حتى كاد يلامسها أو ربما يلتصق بها، وذلك لأن الفيلم يلغي تلك الفسحة التي يمنحها مؤلف الرواية، بقصد أو دون قصد، للقارئ ليملأها بخياله وتصوراته، فيساهم القارئ بنفسه في تخليق الصور والألوان والعوالم التي تتواءم ومزاجه وذائقته ونفسيته، لتزيد من متعة قراءته وامتزاجه مع النص الذي بين يديه. الفيلم، بطبيعة الحال، يأتي ليملأ هذه الفسحة ويعبئ فراغات الخيال بصور وألوان وأشكال من تخليق المخرج الذي يضعها جاهزة للمشاهد في إطار الشاشة، ولو لم يفعل ذلك لقلت جاذبية الفيلم أصلاً.

أما الرواية العادية، وربما الأقل من ذلك، فمن الممكن، بيد مخرج مبدع عظيم، وبكثير من الجهد طبعاً، أن تتحول إلى فيلم ممتاز، وربما رائع، ولكن الأمر في هذه الحالة أشبه ما يكون بعمل جديد، فالمخرج هنا يكون كمن قام بعملية إعادة بناء وتصنيع كاملة استناداً إلى أساسات "الكونكريت" من المبنى السابق لا أكثر!

لهذا، فالروائي الإيطالي الشهير إمبرتو إيكو، صاحب رواية "اسم الوردة" التي حققت نجاحاً باهراً وانتشاراً واسعاً، يرى أن الفيلم الذي قام على روايته هذه هو وبكل بساطة "عمل شخص آخر"، فبالرغم من نجاح الفيلم وروعته وثقته وإعجابه بما قام به مخرج الفيلم جان كلون آنو، فإنه قد قرر عدم السماح بتحويل رواياته إلى أفلام من بعد هذه التجربة.

وللسبب نفسه، يرفض كثير من الكتّاب العظام الآخرين تحويل رواياتهم إلى أفلام، إما مطلقا وإما بعد مرور وقت طويل على صدور الرواية، وذلك خوفاً من الإساءة إليها، أو تحولها إلى عمل آخر.

لكن مع هذا، فلا يمكن أن نغفل حقيقة أن الأفلام اليوم أكثر رواجاً من الكتب بين عموم الناس، بل إن لبعض الأفلام الفضل في انتشار الروايات التي قامت عليها، حيث دفعت من شاهدوا الفيلم إلى البحث عن الرواية لقراءتها، ولهذا فلست ممن يصرون على أن الثقافة إما أن تأتي مشحونة في كبسولة الكتاب وإما فلا، وإن كنت في ذات الوقت لا أزال، وسأظل، مؤمنا بأنه لا شيء يعدل الكتاب الجيد لعملية التثقيف والمعرفة، وبالنسبة إلي، كل كتاب جيد بشكل من الأشكال، أو عند قارئ من القراء، ولكن هذا حديث آخر.

المهم اليوم، في الخلاصة، أن تجد الناس مصادر جيدة للتثقف والتعلم والاستنارة... سواء أكان هذا عبر كتاب، وهو ما أتمناه دوماً، أم عبر فيلم، وهو ما أحبه، أم عبر ندوات وجلسات حوارية شيقة مفيدة، وهو ما لا أنفك عن ممارسته.

نحن اليوم بحاجة ماسة، وقبل التفكير بأي شيء آخر، إلى أن ننهمك في إنتاج كل ما هو جيد، في كل المجالات، وأن ننشغل كذلك في البحث عن المنتجات الجيدة والإشارة إليها، وإعادة تدويرها ونشرها بين الناس... ولعلي أتحدث عن هذا بمزيد من التفصيل في وقت من الأوقات.

كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء

يمكنك متابعة الكاتب عبر الـ RSS عن طريق الرابط على الجانب الايمن أعلى المقالات السابقة