يبدو أن الثورة المصرية وصلت إلى أصعب منعطف لها على الإطلاق أمس الأول الجمعة؛ إذ ظهر، بما لا يدع مجالاً للشك، أن العسكر والإسلاميين دخلا تحدياً مفتوحاً، يمكن أن يقود البلاد إلى احتمالات ومخاطر بلا سقف.

Ad

فمنذ أطيح بالرئيس السابق حسني مبارك، حرص المجلس العسكري، الذي يدير شؤون البلاد في الفترة الانتقالية، كما حرصت التيارات السياسية ذات الإسناد الديني معظمها، على عقد تفاهمات مشتركة، قللت كثيراً من التوتر السياسي في البلاد من ناحية، واستفزت التيارات السياسية المدنية من ناحية أخرى، إلى حد أن قناعة سادت في المجال العام المصري مفادها أن تحالفاً ما نشأ بين العسكر والإسلاميين، وهو الأمر الذي ثبت أنه خاطئ على أي حال.

لقد انتهى "شهر العسل" بين العسكر والإسلاميين في مصر بشكل واضح أمس الأول، وليس معروفاً على وجه التحديد كيف ستكون طبيعة الفترة التي بدأت للتو بتهديد ووعيد مباشرين من قبل أكثر من قيادي إسلامي للمجلس الأعلى للقوات المسلحة، في حال لم تتم الاستجابة لمطالب واضحة تتعلق بتفصيلات الفترة الانتقالية من جهة، وتوقيت تسليم الحكم لسلطة مدنية منتخبة من جهة أخرى.

تعددت الأسماء التي أُطلقت على جمعة أمس الأول في مصر، فثمة من وصفها بـ"جمعة المطلب الواحد"، أو "جمعة تسليم السلطة"، أو "جمعة إسقاط وثيقة المبادئ الدستورية"، لكن الحقيقة هي أنها لم تكن سوى جمعة إنهاء شهر العسل بين الإسلاميين والجيش من جهة، واستعراض الإسلاميين عضلاتهم الميدانية والانتخابية من جهة أخرى.

لقد حرص الإسلاميون على تأمين حشد كبير لتلك الجمعة، عبر استدعاء أسر مؤيدة أو متعاطفة بالكامل من مختلف مناطق البلاد، من خلال أسطول ضخم من المركبات، وحض متواصل للمشاركين على الهتاف والتظاهر بحماس "لأن التظاهر نوع من أنواع الجهاد في سبيل الله".

ولم يقصر أقطاب التيارات الإسلامية في شحن المتظاهرين لتلك الجمعة مستخدمين الذرائع الدينية بشكل مفرط، بل إنهم ربطوا بينها وبين "نصرة الإسلام ومحاربة الكفر" ربطاً مباشراً من جهة، واعتبروها مدخلاً إلى الانتخابات المنتظرة، التي حضوا الحاضرين فيها على التصويت على أساس ديني، من جهة أخرى.

ومن ذلك، أن وصل الحد بشيخ معتبر مثل الدكتور يوسف القرضاوي إلى الإشادة بالتظاهرة، وانتقاد "وثيقة المبادئ الدستورية"، وحض المصريين على التصويت للتيار الإسلامي، عبر "الشهادة لمن يعترف بالخير والصدق والإسلام، وعدم الشهادة للعلماني واللاديني ولمن لا يقبل بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد نبياً".

لا شك أن ما فعله الشيخ القرضاوي، من مقر إقامته في العاصمة القطرية الدوحة، يعد خلطاً سافراً للدين بالسياسة، وانقلاباً مباشراً على الوحدة الوطنية، وتمييزاً دينياً وسياسياً واضحاً يقصي المسيحيين ومعهم العلمانيون عن المشهد السياسي في البلاد.

لم يقتصر الأمر على الشيخ القرضاوي فقط، لكن الكثير من قيادات التظاهرة وأقطاب التيار الإسلامي رددوا عبارات مماثلة، بل إن عدداً من أعضاء الأحزاب اليسارية والليبرالية اضطروا لمغادرة التظاهرة، عندما تم رفع شعارات من نوع "لا الله إلا الله... الليبرالية عدو الله".

وفي موازاة الاستخدام الفج للدين في تلك المعركة السياسية، بدأت رموز سياسية إسلامية بتصعيد خطابها باتجاه المجلس العسكري ووثيقة الدكتور السلمي، نائب رئيس الوزراء، الذي سعى إلى بناء توافق وطني على معايير دستورية تسبق وضع الدستور، وتعرض لانتقادات واسعة بسبب انطواء تلك المعايير على ما اُعتبر مصادرة على حق البرلمان في تشكيل لجنة وضع الدستور، ومحاولة وضع الجيش فوق مؤسسات الدولة.

وللمرة الأولى يتم استخدام عبارات تهديد ووعيد مباشرة من قبل بعض رموز التيار الإسلامي؛ كأن يقول طارق الزمر القيادي بالجماعة الإسلامية إنه "مستعد للشهادة"، أو أن يؤكد المرشح الرئاسي المحتمل والقيادي الإخواني السابق عبدالمنعم أبو الفتوح الاستعداد لـ"تقديم شهداء جدد".

وبينما لوّح المرشح الرئاسي الإسلامي المحتمل محمد سليم العوا بـ"عصيان مدني"، وحماية مطالب التظاهرة "مهما كلفنا الأمر"، حرص على توجيه تهديد مبطن لقادة الجيش، حين قال: "لا أقبل لهؤلاء الرجال الوطنيين مصيراً مشابهاً لمصير مبارك وأولاده". أما القيادي الإخواني صبحي صالح، فقد كان أكثر حدة ووضوحاً، حين وصف وثيقة السلمي التي يتبناها المجلس العسكري، على الأرجح، بأنها "قذرة ومنحطة"، بينما اعتمد المرشح الرئاسي المحتمل حازم صلاح أبو إسماعيل، المحسوب على التيارات السلفية، لغة أكثر تعبيراً عن التمكن وامتلاك القوة، حين قال: "العقاد قال إنه سيحطم رأس أي شخص يجور على الدستور... وكلمات العقاد مازالت باقية... إن لم يحدث أي شيء مما نطالب به، فسأعلن نهاية دور المجلس العسكري إلى الأبد".

في الوقت الذي بدت فيه التيارات الليبرالية والمدنية عموماً أقل حضوراً وتماسكاً وقدرة على الحشد في الشارع أو حصد المقاعد في البرلمان، تبدو قدرات التيار الإسلامي أكبر بوضوح على صعيدي العمل الميداني والانتخابي.

وبعد نحو ثمانية أشهر من التفاهم بين المجلس العسكري والإسلاميين، يبدو أن ساعة الشقاق قد حانت؛ حيث يبدو العسكر غير قادرين على المضي قدماً في انتخابات تقود إلى هيمنة إسلامية على البرلمان ولجنة وضع الدستور، بما قد يغير هوية الدولة المصرية، ويسرقها لمصلحة التيارات المتأسلمة، ويهدد أوضاع الجيش، في ما يبدو أن الإسلاميين في قمة الانتشاء بقدرتهم التنظيمية وفرصتهم الواعدة في اكتساح الانتخابات، ومن ثم "إقامة شرع الله وصبغ المجتمع بصبغة الإسلام"، عبر المضي قدماً في إجراءات تسلم السلطة من القوات المسلحة.

لا يمكن بالطبع استبعاد احتمال أن يفضي المشهد الراهن إلى صدام بين الإسلاميين والمجلس العسكري، على خلفية تمترس كل جانب من الجانبين في خندقه، ومحاولته فرض أجندته التي يرى أنها تؤمن مصالحه وفق الرؤية التي تحكمه.

لكن الأقرب للتحقق هو سيناريو الحل الوسط، وهو الأمر الذي دأب الإسلاميون على انتهاجه طيلة عقود طويلة خلت، وهو الأقرب أيضاً لتفكير رجال الجيش الذين يريدون إتمام مهمتهم الراهنة من دون التورط في صدام واسع مع أي من أطياف الشعب.

وستكون الورشة التي ستشهدها مصر في الأيام القليلة المقبلة معنية بنزع فتيل الأزمة عبر ضمانات وتطمينات والتزامات متبادلة بين الجانبين؛ يلتزم خلالها الجيش بموعد منطقي لتسليم السلطة، واحترام لدور الفئة الغالبة في الانتخابات البرلمانية في وضع الدستور من جهة، ويتخلى فيها الإسلاميون عن بعض مطالبهم المتشددة المتعلقة بهيمنة البرلمان بالكامل على وضع الدستور دون مبادئ استرشادية، وإرجاء إعلان مشروعهم لإنشاء دولة دينية في مصر إلى وقت آخر.

* كاتب مصري