لكتابٍ كتبته عن الموسيقى والشعر، أعددتُ في ملحق فيه مختاراتٍ مُنتخبة من كتاب «الأغاني» لأبي الفرج الأصفهاني، تلاحق «الموقف النقدي» العربي من علاقة الموسيقيّ العربي بالشعر والشاعر. مادة خام تمنح المخيلة سبيلاً لتصور العناصر الأولية لطبيعة هذه العلاقة. لا على مستوى الصحبة، كالتي نراها بين الشاعر عمر بن أبي ربيعة والموسيقي ابن سُريج فقط، بل على مستوى الإلهام مثلاً. فنحن سنعرف شيطاناً للموسيقى كما عرفنا شيطاناً للشعر. ولعلهما واحد. وإن كان شيطان الموسيقى هنا عادة ما يكون «إبليس» ذاته، في حين يتوزع شيطان الشعر على شياطين صغيرة.

Ad

وعلاقة إبليس مع الموسيقى تشير إليه كمصدر إلهام، كما حدث مع الموسيقي إبراهيم الموصلي، حين زاره شيخ وسمع منه وغنى له، ثم غاب بصورة غامضة، وصوته يتردد: «لا بأس عليك يا أبا إسحاق، أنا إبليس وقد كنت جليسك ونديمك اليوم». ولكن إبراهيم حفظ ألحان الزائر البارعة، وأداها للخليفة الرشيد فدُهش، بحيثُ قال له: «الشيخ أعلم بما قال لك من أنك أخذتها وفرغت منها، فليته أمتعنا بنفسه يوماً واحداً».

كان موسيقي الأسطورة اليونانية «أورفيوس» شاعراً أيضاً. وما من فرق بين الشاعر والموسيقي في المراحل المبكرة. كان حين يُنشد تقربه الطير والحيوان. وأنت ترى ظلال هذا التأثير في ما حدث للموسيقي مُخارق حين غنى في رحلة صيد»... فعطفت الظباءُ راجعةً إليه حتى وقفت بالقرب منه، مستشرفة تنظر إليه مصغية تسمع صوته».

وترينا المنتخبات إجابات عدة بشأن العلاقة بين الموسيقى والكلمة. وبشأن الأولوية إذا ما كانت للشعر أم للموسيقى. الأمر الذي شغل الموسيقيين والنقاد الغربيين. فالشاعر والمغني

أبوالنضير يرى أن لحن الأغنية يلاحق تقطيع العروض، في حين يرى الموسيقي ابراهيم الموصلي أن «العروض مُحدث والموسيقى قبله بزمان».

ويتسع أمر هذه العلاقة ليشمل علاقة اللحن الموسيقي بالنص الشعري. وهل الموسيقى تعبير يلاحق التعبير الأدبي، أم انه مستقل عنه ومكتف بذاته. الموسيقي مالك بن أبي السمع يُسأل عن لحن وضعه فقال: «أخذته منخرْبندة (وهو المكاري) بالشام يسوق أحمرةً، فكان يترنم بهذا اللحن بلا كلام، فأخذته فكسوته هذا الشعر». هذا يعني أن الموسيقى فن مجرد في جوهرها، وما النص الشعري إلا كسوتها. اسحاق الموصلي يستحسن لحناً رومياً لم يفقه من كلماته شيئاً، فيأخذه وينتخب له نصاً شعرياً. وفي أخرى يقول: «صنعتُ لحناً فأعجبني، وجعلتُ أطلب له شعراً، فعسر عليّ ذلك...».

محاور أساسية شغلت الموسيقي العربي في مرحلة حضارته في العصور الوسطى، كما شغلت الناقد الموسيقي الغربي في حضارته اليوم. دعك عن علاقة الموسيقى مع الدين، يوم يتسع أفقه، وتفيض فيه الإضاءة. فقيه المسجد الحرام عطاء بن أبي رباح يتعرض للموسيقي ابن سُريْج، ويُنكر عليه غناءه. فيستحلفه ابن سُريج أن يسمع غناءه في شعر عمر بن أبي ربيعة ثم يحكم»... فلما سمعه عطاء اضطرب اضطراباً شديداً ودخلته أريحيةٌ، فحلف ألا يكلم أحداً بقيةَ يومه إلا بهذا الشعر، وصار إلى مكانه من المسجد الحرام، فكان كلُّ من يأتيه سائلاً عن حلالٍ أو حرامٍ أو خبرٍ من الأخبار، لا يجيبه إلا أن يضربَ إحدى يديه على الأخرى ويُنشد هذا الشعر حتى صلّى المغرب، ولم يعاود ابن سريج هذا ولا تعرّض له».

ولفقيه بغداد أبي حنيفة حكاية لا تقل تأثيراً وطرافة. فقد كان له جارٌ إذا ما سكر صار يغني، فأخذه العسس وحُبس. ففقد أبوحنيفة صوته. فسأل عنه من غدٍ فأخبر، فدعا بسواده وطويلته (ثوبه الرسمي الأسود وقلنسوته) ولبسهما، وركب إلى رئيس العسس محتجاً، فأطلق سراحه. فلما خرج الفتى دعا به أبوحنيفة وقال له سراً: ألستَ كنت تغني يا فتى كلَّ ليلة: «أضاعوني وأيّ فتى أضاعوا... «فهل أضعناك؟ قال: لا والله أيها القاضي. قال: فعد إلى ما كنت تغنيه، فإني كنتُ آنس به، ولم أرَ به بأساً».