الأستاذ علي الشوك لم ينقطع عن الكتابة في الشأن الموسيقي، حين انصرف في السنوات المتأخرة للكتابة الروائية. الشأن الموسيقي يكتفي بالمقالة التي تستوعبها الصحافة الثقافية، في حين تحتاج الرواية إلى كتاب. ولقد نشر الأستاذ علي أكثر من كتاب، كان «موعد مع الموت» (دار المدى) آخرها.

Ad

قرأته البارحة في ليلة واحدة، لأني وجدت فيه أكثر من عامل مشوق. فالكتاب يتحدث عن سيرة بطل حقيقي، أعرفه عن قرب هو الكاتب الشهيد كامل شياع، الذي اغتيل في العراق في 23 من هذا الشهر من عام 2008. حتى ليكاد يكون أقرب إلى «السيرة»، لو أننا أعدنا الأسماء المستعارة إلى أصولها الواقعية. ولعل ما يشجع على هذا الرأي أن المؤلف لم يجد ضرورة لتثبيت الملاحظة المألوفة: «إن أي شبه بين أبطال الرواية وأشخاص أحياء لم يحدث إلا بعامل الصدفة...». مع أن الرواية تتحدث عن حدث حقيقي، وعن أشخاص حقيقيين، لعلي أعرف عدداً منهم عن قرب.

الأمر الذي لا أملك القدرة النقدية على البت به هو مصدر عنصر التشويق الذي أشرت إليه. هل هو كامن في الكتاب كرواية، أم في الكتاب كسيرة لشخص أعرفه عن قرب؟ هل لاحقت صفحات الكتاب بفعل تأثري بعناصر الفن الروائي: أفكار، شبكة علاقات، لحظات تأمل، تطور شخوص، نثر روائي...، أم أنني لاحقتها بفعل فضول لمعرفة ما خفي علي من أحداث، وأفكار صديق أعرفه؟

في كتاب الأستاذ علي الشوك الجديد من الصعب الفصل بين هذين. فالكتاب «سيرة» وُضعت بصيغة روائية موفقة. وعنصر التشويق شاهد على هذا، حتى لو كنت قارئاً على معرفة بالبطل. ثم إن الهاجس الذي يتشرب صفحات الكتاب يكاد يكون هاجساً فكرياً، مثيراً في جوانب منه، وفي جوانب أخرى إشكالي، يجعلني على أهبة اعتراض، وربما استنكار.

في الكتاب هناك علاقات حب غير مكتملة لكامل (رياض في الرواية). وهناك معتقدات وخيارات غير مكتملة هي الأخرى. وهذا رصد موفق لحياته الحقيقية. فهو لم يطرح موضوعة الحب بإلحاح على نفسه، ولا القناعة العقلية. إنه مفكر متاهة أوشكت ان تعطله عن الكتابة. انتسابه اليساري أخلاقي، وليس سياسياً. خرج من طبقة بغدادية متواضعة الحال، ولقد أسهم الفكر والأدب والفن في إعادته الحميمة إليها، لا في فصله عنها. ولا فاصل بين إصراره على العودة إلى العراق رغم مخاطر الاغتيال، ورغبته العميقة في الإسهام ببنائه وبين حبه لأكلة «التشريب العراقي»، وللعباءة العراقية السوداء. إنها جميعاً تعبر عن حاجته الوجودية التامة لـ»الأصالة». رغبة جامحة لإعادة توازنه الذي أسهم المنفى والكتاب في زعزعته. إنه يريد أن يكون فيلسوفاً بمذاق التشريب، وحداثياً برائحة «فوطة» أمه. الأمر الذي أهملته الرواية، كما أعتقد، أو أنها أدركته تلميحاً، عبر موقف المؤلف المختلف تماماً.

الأستاذ علي الشوك اعتمد عائلة عراقية من مخيلته الروائية، لتتحدث بلسانه. وقال عنها «أرستقراطية»، ولعلها برجوازية غنية، انتسبت عن مصلحة إلى حضارة الغرب الحديثة، وأقامت في لندن. كان رياض يضمر ميلاً قوياً لابنتهم شهرزاد، التي بدت لي مصنوعة، بصورة ما. فهي مولودة في لندن، أستاذة في الفيزياء، ولها نظرية فيها. ولكنها ليست على عادة الإنكليز المتحضرين في النظر إلى الشرائح الشعبية، والحديث عنهم: «... لم تعد هناك جماهير نظيفة في العراق، بمعنى غير ملوثة، طبعاً. أنا أستثني القلة التي لاتزال تحافظ على القيم النظيفة... لقد أصبحت محاصرة أمام الرعاع الذين أغرقوا العراق في تخلفهم وبربريتهم... كنت أريد من رياض أن ينأى بنفسه عن إصلاح هؤلاء الرعاع... أن يبتعد عن قذر الواقع الحياتي، أو اليومي، أنا أعتبر رياض متخلفاً، وليس شعبياً كما كان يعتقد في حبه عباءات النساء الشعبيات...». المؤلف أقحم رياض في حب امرأة ليست في سياق عالمه الروحي. امرأة منتهى طموحها أن ترى زوجها يمارس الجنس أمامها مع عاهرة وسط أمستردام. كما أقحمه وسط طبقة غنية لا عهد له بها في حياته. وغيّب عالمه المألوف: عالم عائلته البغدادية، أصدقائه المفكرين، أفكاره التي تسعى إلى الفعل، حتى لو كانت وهماً.