2-
تلك النظرة التي تتفوق على نظرة القبطان إيهاب، أعرف بأنك لا تصدقني، لكنني لا يمكن أن أخطأ في أمر كهذا، أجل تلك كانت نظرته، تلك كانت نظر اللورد جيم.- جوزيف كونراد!- كلا، اللورد جيم نفسه بلحمه وشحمه، يبدو انه قد عاد أخيراً من إحدى مغامراته البحرية، بعد الفضيحة التي أساءت الى سمعته.ثم صمتتْ.- ماريا، ماريا، أنني أصدّقكِ، وهل؟- كلا، أنت لا تفهم. كان قد تركني منذ زمن بعيد، كان يظهر ويختفي تماماً مثل الثعلب، وعندما رآني أقترب مني وبدأت أرتعش. بدأت أرتعش وأحسستُ بالخوف، وعندما نطق جملته الأولى أدرتُ وجهي وبدأت أفكر في ماريا.ثم صمتتْ.بدأتِ تفكرين في نفسك...-كلا، ها أنت لا تفهم أيضاً، قلتُ لك كنتُ في البداية أفكر في البحر والمحيطات، إلى أن ظهر اللورد جيم. لكنني كنتُ من القوة والصلابة بحيث أهملته على الفور، ثم بدأتُ أفكر في ماريا الأخرى. تلك التي عاشت في البرتغال، في تلك المدينة الصغيرة المطلة على الميناء البحري الشبيه بهذا الذي أحدثك منه الآن. أنت تعرف تلك القصة، "ثلاثة قروش من أجل بحار"، تلك المرأة التي هجرها حبيبها البحار فتحولت إلى قديسة. كانت امرأة ضائعة فوجدت طريقها في السماء. كان الأمر قريباً من هذا، ولا أظن بأن اللورد جيم سيراني ثانية، نادراً ما تتقاطع الخسارات الكبرى في اليابسة، ثم صمتتْ.-لا فائدة، سوف لن تفهم. مَنْ كان المخرج، من كان ذلك السينمائي الذي... آه... تذكرته أظن أن اسمه راؤول رويز، أجل، هو الذي أخرج "ثلاثة قروش من أجل بحّار". ذلك البحار الذي ضُربَ حتى الموت وكان يتحدث عن الشعر. كانت فاعلية الألم هائلة، وكان الدود الذي يخرج من خلايا الجسد الإنساني رهيباً، ذلك الدود الذي يخرج من أجساد البحارة هو الشِعر الصافي، كان يقول:وأنا أعود إلى المنزل في آخر الليل، كان المطر يتساقط والشارع رطباً تذكرتُ ماريا، تلك المرأة الدنماركية، تذكرتُ نبرات صوتها، وشعرها الطويل، وتذكرتُ هذه الحكاية التي أحدثك عنها الآن، كنّا جالسين تماماً في مكان كهذا، أمام البحر.- ربما كانت حلماً.- كلا، كانت امرأة حقيقية، وربما كانت على حق.كانت ماريا تتحدث عن رويز الذي غالباً ما وصف النقاد أفلامه بأنها نابعة من ضباب الواقعية السحرية التي عرفتها أميركا اللاتينية، إبان الستينيات من القرن الماضي، كان صاحب "تانغو الأرمل" 1967 "ثلاثة نمور حزينة" 1969 و"أسرار لشبونة" 2010، المأخوذة أحداثها عن كتاب كاميلو كاستيلو برانكو، قد ترك بصمة واضحة في حقل اللغة السينمائية التجريبية باعتماده على تراث السوريالية على نحو عميق، فصوره السينمائية تبدو شديدة القسوة أحياناً مع مزيج من السخرية السوداء تظل حاضرة في ذهن المشاهد حتى بعد مرور سنوات طويلة، كما في فيلمه "ثلاثة قروش من أجل بحار" فهو فيلم يصعب نسيانه، لقد شاهدته في نيويورك قبل عشرين عاماً تقريباً، ومازالت مشاهده المذهلة تتراءى أمام عيني. كان راؤول رويز يمتلك مخيلة تجر المشاهد إلى آفاق الشعر، والحلم، والحياة، العدمية أحياناً، وكان وفياً لنزعته السينمائية الممزوجة بالماركسية والفرويدية، كما ظل منتمياً إلى عدد من السينمائيين التشيليين الذين شكلوا جيلاً يسارياً على الصعيد السياسي كميغيل ليتين وهيلفيو سوتو وآخرين.
توابل - ثقافات
تداعيات الأزرق الغامض - 2
14-11-2012