فجر يوم جديد: مدارس شعبية لتعليم الديمقراطية
بين الحين والآخر أتلقى تقارير أخبارية ترصد نشاطات نادي الكويت للسينما، الذي يُقام بالتعاون مع إدارة السينما في المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب. آخر هذه النشاطات برنامج «كلاسيكيات السينما العالمية»، الذي أتاح لأبناء الجيل الجديد فرصة مشاهدة الفيلم الإيطالي الشهير «سارق الدراجة» (إنتاج عام 1948)، الذي حصل مخرجه فيتوريو دي سيكا على جائزة أوسكار فخرية عام 1950، وفيلم «إجازة في روما» (إنتاج 1953) إخراج ويليام وايلر، الذي حصد جائزة أوسكار أفضل سيناريو، وأوسكار أفضل أزياء، كذلك حصلت بطلته أودري هيبورن على أوسكار أفضل ممثلة، وجائزة البافتا كأفضل ممثلة بريطانية.
ومع إحياء التراث السينمائي وإعادة بعث «الكلاسيكيات الخالدة»، يُلقي نادي الكويت للسينما الضوء على الأفلام الخليجية الواعدة، ويحتفي ويُقدم المواهب الشابة التي يُنتظر أن يكون لها شأن كبير في المستقبل القريب. نشاط ملحوظ وزخم محمود أثارا في نفسي شعوراً بالزهو والسعادة، فثمة من لا يزال يرى أن الثقافة السينمائية قد تؤدي دوراً في بناء الأمم، لكنني عجزت عن إيقاف طوفان الذكريات التي اقتحمتني، وأعادتني إلى التجربة المصرية الرائدة في تكوين نواد وجمعيات وجماعات السينما في الوطن العربي، والتي قادها كتاب ونقاد وباحثون كبار، وأسهمت بشكل كبير في احتضان أجيال صقلت وعيهم وهذبت أفكارهم، وجعلت منهم حائط صد في مواجهة التطرف، والمؤامرات التي تستهدف تدمير المجتمع وإعادته قرون إلى الوراء. فلا أبالغ إذا قلت إن عدداً غير قليل من أبناء تلك الجمعيات والجماعات، التي يحلو لي أن اسميها «المدارس الشعبية لتعليم الديمقراطية»، وجد طريقه إلى بعض المناصب القيادية في الأجهزة الثقافية والمنابر الإعلامية والصحافية بفضل المناقشات والحوارات التي كانت تتم في هذه الجمعيات والنوادي التي لم تكتف بتنظيم عروض الأفلام وعقد الندوات، بل كانت توجه الدعوة إلى صانعي السينما في العالم للحضور ومناقشة أفلامهم في وجود الجمهور، الذي كان يضم طوائف وشرائح مختلفة من بينها المهندس والطبيب والموظف والطالب، ولم يعرف عبر السنين شيئاً اسمه «الطبقية». غير أن الأهم أن تلك التجربة الفريدة نجحت في تأهيل أجيال متعاقبة بعدما رسخت لدى أبنائها الكثير من المبادئ الإنسانية والقيم النبيلة كالتسامح وقبول الآخر، وتبادل واحترام وجهات النظر المختلفة، فضلاً عن إتاحة الفرصة لشريحة عريضة في اكتشاف طاقاتها الإبداعية الكامنة عبر الكتابة في «النشرات» التي كانت تصدر عن تلك النوادي والجمعيات، ولم تكن حكراً على قادتها أو المهيمنين على إدارتها من نقاد وباحثين ومؤرخين ومتخصصين كبار. ففي مدرسة الناقد الكبير الراحل سامي السلاموني تعلمنا كيف تكون السخرية اللاذعة التي تجعل من الفيلم السيئ ومخرجه ألعوبة وأضحوكة، لكنها لا تسمح أبداً بالتجاوز والخروج أو الإهانة الشخصية، ومن الباحث والمؤرخ أحمد الحضري أدركنا معنى الرصانة ودقة المعلومة، والتوثيق الذي يمنح صاحبه الثقة... وإلى الناقد السينمائي يوسف شريف رزق الله، الذي كنا ننظر إليه بوصفه «موسوعة بشرية تتحرك على قدمين»، يرجع الفضل في تعرف قطاع عريض إلى المدارس والتيارات والاتجاهات التقدمية وأيضاً العبقريات الإبداعية في السينما العالمية... ومن الناقد والباحث هاشم النحاس عرفنا أهمية الفيلم التسجيلي والوثائقي في حياة الشعوب.. وتعلمنا من مدير التصوير الموهوب سعيد شيمي أن للصورة لغة... ووضع مخرجون كبار مثل توفيق صالح ويوسف شاهين وصلاح أبوسيف... ومن بعدهم محمد خان، خيري بشارة، عاطف الطيب وداود عبد السيد أيدينا على مفاتيح قراءة الفيلم. كانت بحق محافل للتنوير والاستنارة، ومنابر للتحرر من الأفكار العقيمة والبالية، وربما لهذا السبب تواطأت ضدها القوى الرجعية، فتم إغلاق «نادي القاهرة للسينما»، بعد تعرضه لمؤامرة غامضة قادته إلى مصير مأساوي جرى التحفظ فيه على أمواله، وترهيب رموزه، وانتهى بتقييد نشاطاته، بينما تسعى «جمعية الفيلم» جاهدة إلى مواصلة دورها، وتتشبث بدأب تُحسد عليه بتنظيم مهرجانها السنوي الذي تُكرم فيه التجارب الواعدة في السينما المصرية في ظل إمكانات فقيرة وتربص مفضوح، ورغبة محمومة في القضاء عليها بوصفها «بؤرة ثقافية» تسمح بوجود «قلة مندسة». ومن عام إلى آخر تحاول «جمعية الفيلم»، التي تأسست عام 1960 كأول جمعية سينمائية أهلية أن «تبقى على قيد الحياة السينمائية»، وألا تلفظ أنفاسها، ويُواري جثمانها تراب الساحة الثقافية، كما حدث مع «نادي القاهرة للسينما»! تداعيات وذكريات فرضت نفسها عليَّ وأنا أتابع بفرحة غامرة النشاط الوافر، الذي ينظمه ويدعو إليه «نادي الكويت للسينما»، لكن شعوراً بالقلق تملكني خشية أن تتكاتف قوى الظلام ضده، ودعوت الله أن يحفظه لجمهوره ويوفق «الجنود المجهولين» القيمين على إدارته لمواصلة مهمتهم الانتحارية.