اغضب حيث الغضب
العقائد الدينية ورموزها لها خصوصية بل وقدسية في حياة ووجدان الشعوب... والمساس بها يعتبر من المحرمات بل ويفجر براكين الغضب بعيداً عن النتائج مهما عظمت، خصوصاً في العالم الشرقي حيث قدسية الرمز والمكان. والعالم الإسلامي هو عالم ثالث بامتياز يتسم بفطرة التدين والمحافظة عموماً، مما يشكل الدين ورموزه في قناعاته حالة لا تقبل الجدل وغير قابلة للمس مع تحريم أي إشارة سلبية تسيء إليه، وهذا ما يفسر الغضبة العارمة على الإساءة للرسول الكريم (ص). الحريات في الغرب العلماني لا حدود لها ومحاطة بحصانة لا حدود لها تفوق بكثير حصانة الأديان والأوطان، وبات كل ما عداها خاضعاً للنقد والنقاش وحتى الاستهزاء وغير ممنوع من التداول، فكم من فيلم أو رسم أو رواية نالت من السيد "المسيح" والسيدة مريم عليهما السلام دونما حساب أو اكتراث من تبعات ذلك، والاستثناء الوحيد هو "الدين اليهودي" في سقف الحريات، إذ استطاع اليهود بعد الحرب العالمية الثانية استغلال حالة التعاطف معهم من جراء المحرقة النازية من سن قوانين وتشريعات تجرم الإساءة وبأي شكل للمعتقدات اليهودية تحت مسمى "معاداة السامية". حالة التدين عموماً في شرقنا نتاج حالة وجدانية عاطفية تتواصل مع الخالق بغرض الرضا والفوز بالجنة فقط بعيداً عن الشأن العام، في ظل غياب تام لأي حضور فقهي معرفي ينتج وعياً دينياً تنويرياً يجنب العالم الإسلامي كثيراً من المزالق ومن الفتن التي تتربص به. ولذلك نرى ردود فعل المسلمين على كثير من المسائل غير منسجمة مع أصول الدين وأحياناً خارجة عنه تماماً، ناهيك عن عدم التمييز بالأولويات التي توجب الغضب الفعلي، فالإساءة إلى الرسول (ص) عن طريق فيلم السفاهة والرداءة الفنية والأخلاقية الذي استفز المسلمين أخيراً والذي لا يمثل أصحابه إلا أنفسهم، توجب الغضب والانفلات إلى حد الحرق وقتل الأبرياء... أما إهانة الله ورسوله وأنبيائه وتدنيس القرآن وهدم دور العبادة على رؤوس المصلين، ناهيك عن العبث واللهو والمجون داخل بعض المساجد، هذا ماعدا الأرقام الفلكية في أعداد القتلى والمفقودين وذبح الأطفال واغتصاب النساء بما فيها السجود لغير الله وتأليه المجرم "بشار الأسد"، فكل ذلك حدث ويحدث جهاراً نهاراً في سورية وعبر الفضائيات وأجهزة الاتصال المختلفة، وكل هذه الفظاعات للأسف لم تفجر حتى بالون هواء في الشوارع العربية والإسلامية باستثناء البعض المؤمن. لو تحركت نصف هذه الغضبة انتصاراً للشعب السوري لحقنت كثيراً من دمائهم، وشكلت ضغطاً على صانع القرار العربي والدولي لنصرة ثورتهم، لكن حصيلة غضبة "الفيلم الفتنة" جاءت منسجمة مع وعينا وثقافتنا القائمة على الانفعال دون الفعل. الصحوة الإسلامية -كما يسميها الإسلاميون- ليست إطلاق اللحى ولا الوصول إلى السلطة بأي ثمن، ولا الفوز بعضوية البرلمان، ولا محاولة تعديل كتب التاريخ لدس سيرة حسن البنا فيها، وإنما حالة تنويرية في الفقه والتفسير، ونقلة نوعية في المنتوج الثقافي والفكري تحمل التنوع والاختلاف وسيادة الحوار، للنهوض بالعقل العربي والإسلامي إلى مرحلة الفعل والتفاعل مع الآخرين لبناء مجتمع حضاري يحقق الكفاية والعدل بعيداً عن التطرف والغوغائية... لهذا سنحتاج إلى صحوات كثيرة لتصحيح بعض مفاهيمنا المغلوطة. الإساءات للعقائد لن تتوقف غربياً لمعرفة المتربصين بآلية تفكيرنا، وهي فرصة لكل رخيص ومغمور للقفز إعلامياً وكسب الشهرة على حساب انفعالنا... ولاشك أن سن قوانين أممية لاحترام العقائد والأديان بات ضرورة إنسانية وأخلاقية احتراماً للإنسان وحقوقه وآدميته.